تخيل عالماً ينمو فيه الاقتصاد دون أن يدمر البيئة، حيث تتقدم التكنولوجيا وتتطور المدن مع الحفاظ على الموارد الطبيعية. هذا هو وعد النمو الاقتصادي الاخضر Green Growth، الذي يمهد الطريق لمستقبل مستدام يجمع بين الازدهار الاقتصادي وحماية كوكبنا. إنه الحل الذي نحتاجه لضمان رفاهية الأجيال القادمة مع تحقيق تطور اقتصادي مسؤول.
انقضى أكثر من ثلاثين عامًا مرت على انعقاد قمة ريو Rio الأولى في عام 1992 أو كما يُسمى فعليًا بقمة الأرض، لا يزال العالم من ذلك الحين يواجه تحديات اقتصادية وبيئية متعددة ومتضادة؛ ومن أبرز التحديات المطروحة كان هنالك تحديان مهمان وهما:
- التحديات البيئية ومخاطر استنفاذها بالتلوث والانبعاثات الضارة الناجمة عن التصنيع.
- اتساع الفرص الاقتصادية المتاحة نتيجة التزايد المستمر بأعداد سكان العالم (الذي يمكن أن يشجع الشركات على اهمال الاهتمام بالبيئة).
إن الاستمرار بإهمال معالجة القضايا البيئية على حساب التوسع الاقتصادي، الأمر الذي سيؤدي إلى اندثار الفرص الاقتصادية في المستقبل. من هنا ظهرت الحاجة لما يسمى بالنمو الأخضر Green Growth، وملتقى قمة ريو Rio حاول أن يجمع بين هذين التحديين الخطرين، ويوضح آلية التعامل معهما بحيث يحدث نوع من التوازن بين البيئة والاقتصاد دون أن يضر أحدهما بالآخر.
ما هو النمو الاقتصادي الاخضر Green Growth؟
يُعرف النمو الاقتصادي الاخضر Green Growth بأنه عملية تعزيز النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية مع توفير ضمانات بالمحافظة على الموارد الطبيعية كأحد الأصول الإنتاجية الرئيسية التي تستعمل للمحافظة على البيئة الطبيعية المحيطة بنا، ونعتمد عليها في حياتنا بما يحقق الازدهار والرفاهية للاقتصاد وللأفراد.
وهو هدف راقي يركز على إيجاد نوع من التوازن بين الاقتصاد والطبيعية عن طريق تحفيز الاستثمارات والابتكارات بما يضمن تحقيق التنمية المستدامة وإيجاد فرص اقتصادية حديثة تحافظ على البيئة ومواردها ولا تضر بها، بل وتنميها حتى يستفيد منها الأفراد والاقتصاد ليحقق بذلك رفاهية الأفراد والمجتمع.
تحافظ استراتيجيات النمو الاقتصادي الأخضر على الموارد البيئية الطبيعية بجميع إمكانياتها الاقتصادية الكاملة وبصورة مستدامة دون أي انتقاص لها نتيجة لعمليات التصنيع أو التلوث الناجم عنه، كما وتشمل المحافظة على جميع مكونات البيئة، مثل المحافظة على الهواء النظيف والمياه النقية، وعدم إلحاق الضرر بالتنوع البيولوجي للكائنات الحية اللازم لإنتاج الغذاء المهم للمحافظة على صحة الإنسان، فالموارد الطبيعية ليست قابلة للاستبدال بسهولة في حالة تلوثها أو تدميرها، وهو ما يتوجب علينا الانتباه لها ووضع استراتيجيات التنمية الخضراء.
كما أنها تطرح فكرة أوسع لمقاييس التقدم الاقتصادي، بتركيزها على جودة نتائج النمو الاقتصادي الاخضر، وآثاره ومكوناته الإيجابية على رفاهية الأفراد وثرواتهم، عوضًا عن التركيز على حسابات الناتج المحلي الإجمالي كمقياس أساسي للتقدم الاقتصادي، دون أي اعتبار لمساهمات الموارد الطبيعية في تحسين الصحة، أو في تحقيق الرفاهية وتكوين الثروة.
من أحد أهم التواريخ للتنمية الخضراء هو العام 2009، وتعود أهميته استجابة وزراء 34 دولة لاستراتيجية النمو الاقتصادي الاخضر والتوقيع على إعلانها الرسمي مع تعهدهم بالالتزام بتعزيز جهودهم لمتابعة استراتيجيات النمو الاخضر كجزء رئيسي للاستجابة للأزمة الاقتصادية العالمية التي انتشرت في ذلك الوقت، وتوجهاتهم لاتخاذ خطوات جدية لمنع تكرارها في بعد.
كما حدثت نقلة نوعية في تاريخ النمو الاقتصادي الاخضر في شهر مايو 2011 عندما قامت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بتسليم استراتيجيتها للنمو الاخضر إلى رؤساء ووزراء أكثر من أربعين دولة، أدوا دورهم بالترحيب بها كأداة رئيسية ومفيدة لتوسيع دائرة التنمية الاقتصادية.
علاقة النمو الاقتصادي الاخضر بالتنمية المستدامة
النمو الاقتصادي الاخضر ليس بديلًا عن التنمية المستدامة إنما هي أحد أساسياتها ومكوناتها التي تساهم في توفير نهج عملي ومرن هدفه تحقيق تقدم ملموس قابل للقياس عبر الجمع بين ركائز اقتصادية وبيئية أساسية، يجب مراعاتها عند إنتاج وتصنيع المنتجات، بما يضمن إنتاج يحقق الفائدة الاقتصادية للأفراد والبيئة بنفس الوقت.
فإذا لم يتحقق هذا التوازن بين البيئة والاقتصاد المحيطة كانت النتيجة لا تحمد عقباها. فهي تنمية خضراء تركز على النتائج الاقتصادية الاجتماعية والإيجابية الناجم عن عمليات التحضّر المستمرة في الدول والانتقال المستمر للمدن.
أهداف النمو الاقتصادي الاخضر
تُعد سياسات النمو الاخضر جزءً لا يتجزأ من الإصلاحات الهيكلية اللازمة لتعزيز نمو اقتصادي قوي وأكثر استدامة وشمولية، كما أنها تُتيح آفاقًا جديدة لمزيد من الأهداف الاقتصادية من خلال:
- المساعدة في تعزيز الإنتاجية وإيجاد عوامل تحفيزية في زيادة كفاءة استعمال الموارد الطبيعية، والحد من النفايات واستهلاك الطاقة، وإطلاق العنان لفرص خلق القيمة والابتكار، والتخصيص الأمثل لاستعمال الموارد الطبيعية.
- تعزيز ثقة المستثمرين في الاقتصاد وتزيد القدرة على التنبؤ بالآليات الحكومية في التعامل مع القضايا البيئية الرئيسية.
- العمل على فتح أسواق حديثة وزيادة تحفيز الطلب على الخدمات والسلع والتقنيات الخضراء.
- ضبط الأوضاع المالية العامة من خلال زيادة الإيرادات العامة عن طريق فرض الضرائب الخضراء لتنمية المشاريع الخضراء أو إلغاء الإعانات الحكومية للمشاريع التي تضر بالبيئة.
- المساعدة على زيادة دور الموارد الطبيعية في برامج مكافحة الفقر، خصيصًا في مجالات مشاريع الصرف الصحي وإمدادات المياه وغيرها من الاستثمارات التي تنصب في مصلحة الفقراء.
- تقليل مخاطر النمو السلبية الناجمة عن استنزاف الموارد ونضوبها، وما ينتج عن ذلك من آثار تحدث أضرارًا بيئية لا يمكن إصلاحها مستقبلًا.
خلق فرص عمل جديدة
وفقًا لتقرير نشرته منظمة العمل الدولية عام 2018، عن العمالة العالمية والتوقعات الاجتماعية، جاء فيه أن التحول إلى اقتصاد أكثر خضرة يمكن أن يخلق 24 مليون وظيفة جديدة على مستوى العالم بحلول عام 2030 إذا وضعت السياسات الصحيحة لتنفيذ الانتقال للاقتصاد الاخضر. ستظهر هذه الوظائف الجديدة عند تبني ممارسات مستدامة في قطاع الطاقة، واستخدام المركبات الكهربائية، وزيادة كفاءة الطاقة في المباني الحالية والمستقبلية.
بينما ينتقل العالم إلى اقتصاد أكثر اخضرارًا، سيفقد الاقتصاد العالمي ما يقدر بنحو 6 ملايين وظيفة، بما في ذلك في مجالات استخراج النفط والمصافي، و تعدين الفحم، وإنتاج الكهرباء من الفحم. و للتعويض عن ذلك، يشير التقرير إلى أنه ستكون هناك حاجة إلى سياسات تكميلية لحماية العمال والتأكد من أن الانتقال عادل.
تقترح منظمة العمل الدولية أن السياسات جيدة التصميم يمكن أن تعزز الحماية الاجتماعية وتدعم الاستثمار الاخضر المجدي الذي يعزز النمو ويؤدي لخلق فرص عمل أفضل وتوزيع عادلًا للدخل. ومع ذلك، فإن وضع السياسة ليس هو الحل الوحيد للانتقال فقط وإنما يتطلب إلتزامًا قويًا من الشركات لتحقيق الاستدامة البيئية على المستوى العالمي.
وبحسب نفس التقرير تعتمد 1.2 مليار وظيفة على الصعيد العالمي على بيئة مستقرة وصحية، مثل الزراعة ومصايد الأسماك والغابات، وكذلك السياحة والمستحضرات الصيدلانية وغيرها. و ستؤدي الزيادات المتوقعة في درجات الحرارة وتدهور البيئة إلى الإضرار بالوظائف وظروف العمل، خصيصًا العمل الذي يعتمد على الموارد الطبيعية، وعلى خدمات النظام الإيكولوجي وعلى بيئة مستقرة وخالية من الكوارث. في الواقع، يتوقع التقرير فقدان 72 مليون وظيفة بدوام كامل بحلول عام 2030 بسبب الإجهاد الحراري، و ستؤدي الزيادات في درجات الحرارة إلى تقليل ساعات العمل المتاحة، لا سيما في الزراعة.
استراتيجية النمو الاقتصادي الاخضر
من الصعب إيجاد قالب عام لتطبيق استراتيجية نمو أخضر مثالية تصلح للتعميم على كل الدول، ويجب على أي بلد تصميم استراتيجيات النمو الاقتصادي الاخضر المثلى التي تتناسب مع ظروفها وتحقق لها النمو الاخضر بما يتناسب مع مواردها. كما يجب على كل دولة إدارة مواردها الطبيعية بحذر كبيرة بما يحقق لها الاستثمار الأمثل، مع الأخذ بعين الاعتبار إيجاد التوازن بين برامج الحد من الفقر وتحقيق النمو الاقتصادي الأخضر، بالإضافة إلى تأمين بنية تحتية أكثر كفاءة، خاصة في مجال النقل والمواصلات وتوفير المياه وتوليد الطاقة. مع ضرورة بتأدية بعض الإجراءات الجدية لمعالجة تدهور الأوضاع الصحية الناجمة عن التدهور البيئي، مع الاعتماد في نفس الوقت على تقنيات فعالة تساهم في تقليل التكاليف وزيادة الإنتاجية دون أن تسبب ضغوطًا بيئية.
تقلل استراتيجيات النمو الاقتصادي الاخضر المخاطر البيئية في الدول منخفضة الدخل، ورفع مستوى معيشة الفقراء في نفس الوقت، خاصة في حال اتباع سياسات مركزية لإدارة الموارد الطبيعية فيها.
تحدد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أفضل السياسات وأدوات القياس التي يمكن أن تتبناها الدول في تنفيذ النمو الاقتصادي الاخضر، كل دولة حسب وضعها بما يساعدها في القضاء على الفقر وخلق فرص العمل جديدة لبناء اقتصاد قوي وتحقيق تنمية مستدامة. وعمومًا من أبرز استراتيجيات النمو الاقتصادي الاخضر نذكر:
- الاستخدام المستدام للموارد والأراضي
يجب أن تشجع الدول الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية، مثل المياه والغابات والمعادن والنفط والغاز. كما يجب الاستخدام الفعال للموارد الطبيعية، مثل إعادة التدوير وتقليل النفايات. بالإضافة إلى تحفيز استخدام المستدام للأراضي، مثل الزراعة المستدامة وإعادة التحريج المناطق الزراعية المهملة وحفظها من الجفاف أو التصحر، وإنشاء مناطق محمية، مثل المتنزهات الوطنية والمحميات الطبيعية، للحفاظ على التنوع البيولوجي والحماية من نضوب الموارد.
- زيادة الاعتماد على البنية التحتية الخضراء والطاقة النظيفة
يجب أن تشجع الدول تطوير بنية تحتية خضراء، مثل أنظمة النقل العام والمباني الخضراء، بالإضافة إلى الترويج لتقنيات الطاقة النظيفة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وزيادة أمن الطاقة. بالإضافة إلى اعتماد معايير وممارسات تعزز من كفاءة الطاقة، مثل الأجهزة و المباني الموفرة للطاقة، خاصة في الأماكن شديدة البرودة و شديدة الحرارة التي تستهلك الكثير من الطاقة لتعديل درجة الحرارة وتطلق انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
- تسعير الكربون والتمويل المستدام
تسعير الكربون هو طريقة لتحديد سعر لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تساهم في تغير المناخ. هناك عدة طرق مختلفة لتسعير الكربون، لكنها تعمل جميعًا من خلال تحديد سعر لكل طن من ثاني أكسيد الكربون أو غازات الدفيئة الأخرى المنبعثة. الهدف من تسعير الكربون هو تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من خلال زيادة تكلفة انبعاث هذه الغازات، وتشجيع تطوير واستخدام تقنيات أنظف ومنخفضة الكربون.
يمكن أن يتخذ تسعير الكربون شكل ضريبة الكربون، وهي رسوم تُفرض على انبعاث غازات الدفيئة. يمكن أن تعتمد الضريبة عادةً على كمية ثاني أكسيد الكربون أو غازات الدفيئة الأخرى المنبعثة، ويدفعها الكيان المسؤول عن الانبعاثات (على سبيل المثال، محطة طاقة أو منشأة صناعية). عادة ما تُمنح الشركات التي تنبعث منها غازات الدفيئة كمية معينة من الكربون وإذا أرادت شركة ما إطلاق غازات أكثر من مخصصاتها، فيجب عليها شراء بدلات إضافية من الشركات الأخرى التي لم تستخدم جميع البدلات الخاصة بها.
تنمي هذه الضرائب حافزًا اقتصادي للشركات والأفراد لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، واستخدام تقنيات وممارسات أنظف تنبعث منها غازات دفيئة أقل أو لا تنبعث منها على الإطلاق.
يمكن استخدام أموال ضرائب تسعير الكربون لتمويل البحث والتطوير في مجال الطاقة النظيفة، أو لتقديم المساعدة المالية للأفراد أو الشركات التي تتأثر جدًا بالتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون. كما يمكن أن يؤثر تحول الشركات لحلول بديلة عن الكربون إلى زيادة تكلفة الطاقة والسلع والخدمات الأخرى التي كانت تنتج باستخدام الوقود الأحفوري. يجادل بعض معارضي تسعير الكربون بأنه سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الطاقة للمستهلكين.
بالتوازن مع فرض الضرائب يجب على الدولة تنمية التمويل المستدام من الأدوات والاستراتيجيات المالية، مثل السندات الخضراء والاستثمار المؤثر.
الخاتمة
تعرفنا على النمو الاخضر وهو المسار الافتراضي للنمو الاقتصادي المستدام، واطلعنا على علاقة النمو الاخضر بالتنمية المستدامة، كما استعرضنا أهم أهدافها وكيف يمكن أن يخلق فرص عمل ويلغي أخرى، وفهمنا كيف يمكن تطبيق استراتيجيات النمو الاخضر.
ختامًا لا يمكن لدولة أن تتحول بسرعة للاقتصاد الاخضر لأن الأمر يحتاج لنقلة نوعية في منظومات الطاقة والبنية التحتية ونشر الوعي بين الناس وفرض ضرائب مناسبة لذلك.