لطالما شكل التضخم ظاهرة اقتصادية منتشرة تؤثر على جميع المستهلكين والشركات والحكومات المالية. يمثل المعدل الذي يرتفع به المستوى العام لأسعار السلع والخدمات، مما يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للنقود. كما يُعد المستوى المعتدل من التضخم سمة طبيعية للاقتصادات النامية، ولكن التضخم المرتفع أو غير المتوقع يمكن أن يسبب مشاكل اقتصادية كبيرة.
سنتعرف على التضخم وأسبابه وآثاره واستراتيجيات إدارته، مما يوفر فهمًا شاملًا لهذا المفهوم الاقتصادي المهم.
ما هو التضخم Inflation؟
هو زيادة مستمرة في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات في الاقتصاد على مدة فترة من الزمن. يُقاس التضخم من خلال مؤشر أسعار المستهلك CPI الذي يقيس متوسط التغير في الأسعار التي يدفعها المستهلكون مقابل سلة من السلع والخدمات، ومؤشر أسعار المنتجين الذي يقيس متوسط التغير في أسعار البيع التي يتلقاها المنتجون المحليون مقابل إنتاجهم. يُشير التضخم إلى زيادة مستمرة في أسعار السلع والخدمات، ممّا يُلحق الضرر بالاقتصادات ويُضعف القوة الشرائية. لذلك
يعبّر عن التضخم بنسبة مئوية لزيادة في الأسعار خلال فترة محددة (عادة سنويًا). على سبيل المثال، إذا كان معدل التضخم 3%، فهذا يعني ارتفاع الأسعار بنسبة 3% كمتوسط عن العام السابق.
يلعب جشع الشركات دورًا في التضخم، حيث ترفع بعض الشركات الأسعار أكثر من اللازم لتغطية التكاليف، مستفيدةً من قوة الطلب ونقص العرض. ومع ارتفاع الأجور لمواكبة التضخم، تحاول الشركات تعويض تكاليف العمالة بزيادات إضافية في الأسعار. التحكم في التضخم يتطلب أدوات مثل رفع أسعار الفائدة لتهدئة الاقتصاد، ولكن تأثير هذه الإجراءات ليس دائمًا سريعًا أو مؤكدًا، مما يترك السوق في حالة من عدم اليقين حول استمرار ارتفاع الأسعار.
فهم أسباب التضخم
يجب المحافظة على مستوى التضخم المُعتدل لأنه مؤشرًا مهمًا على نمو اقتصادي صحي. لإدارة التضخم بفعالية، لا بدّ من فهم العوامل الرئيسية التي تُؤدّي إلى تفاقمه:
- التضخم الناتج عن الطلب Demand Pull Inflation
ينشأ تضخم الطلب عندما يتجاوز الطلب الإجمالي على السلع والخدمات في الاقتصاد العرض المتاح. يحدث هذا نتيجة لعوامل مثل ارتفاع الأجور، أو زيادة سهولة الوصول إلى الائتمان، أو ارتفاع ثقة المستهلكين. فعلى سبيل المثال، عند حصول المستهلكين على إعفاء ضريبي كبير، تزداد قدرتهم المالية على إنفاق المزيد على السلع والخدمات، مما يدفع الشركات لرفع الأسعار لتلبية الطلب المتزايد.
تعمل السياسات المالية التوسعية الحكومية، مثل زيادة الإنفاق العام أو تخفيض الضرائب، على ضخ أموال إضافية في الاقتصاد، مما يعزز الطلب على السلع والخدمات ليتجاوز العرض المتاح ويدفع الأسعار للارتفاع. فعندما تزيد الحكومة، على سبيل المثال، من الإنفاق على مشروعات البنية التحتية للطرق والجسور، يزداد الطلب على مواد مثل الصلب والخرسانة، إضافة إلى ارتفاع الطلب على العمالة، مما يؤدي إلى زيادة أسعار هذه المدخلات في قطاعات مختلفة من الاقتصاد.
- التضخم الناتج عن التكلفة Cost Push Inflation
ينشأ تضخم التكلفة عندما تواجه الشركات ارتفاعًا في تكاليف إنتاجها، مما يدفعها إلى نقل هذه التكاليف إلى المستهلكين عبر زيادة الأسعار. وتساهم عدة عوامل في هذا النوع من التضخم، منها ارتفاع تكاليف العمالة، حيث يؤدي ارتفاع الأجور بمعدل أعلى من الإنتاجية إلى قيام الشركات بزيادة أسعار منتجاتها للحفاظ على هوامش الربح. يحدث ذلك نتيجة لعدة عوامل، مثل قلة العمال المهرة في سوق العمل، أو السياسات الحكومية التي تفرض زيادات في الحد الأدنى للأجور. على سبيل المثال، يؤدي تزايد عدد كبار السن وتناقص دخول الشباب لسوق العمل إلى زيادة الأجور في بعض المجالات، مما يضطر الشركات إلى رفع الأسعار لتعويض التكاليف الإضافية في العمالة.
ترتفع أيضًا تكاليف الإنتاج بفعل الزيادة في أسعار المواد الخام الأساسية، كالبترول، والمعادن، والمنتجات الزراعية. تؤدي اضطرابات سلسلة التوريد، أو ندرة الموارد، أو تقلبات أسعار السلع العالمية إلى ارتفاع هذه التكاليف، مما يُترجم إلى زيادة أسعار المنتجات النهائية. فعلى سبيل المثال، تؤدي كارثة طبيعية تؤثر على مصدر رئيسي للنحاس، وهو مادة مهمة في إنتاج الإلكترونيات، إلى ارتفاع سعر النحاس، مما يدفع الشركات المصنعة لرفع أسعار منتجاتها. ويسهم تخفيض قيمة العملة المحلية بدوره في تضخم التكاليف، حيث يرفع من تكلفة الواردات، مما يُلزم الشركات التي تعتمد على المواد المستوردة بزيادة الأسعار. فعند تراجع قيمة العملة أمام الدولار الأمريكي، ترتفع تكاليف السلع المستوردة كالبترول، مما يزيد من تكاليف النقل وبالتالي من أسعار السلع الاستهلاكية.
- التضخم الداخلي Built-In Inflation
التضخم الداخلي هو نبوءة ذاتية التحقق ينشأ عندما يتوقع الناس زيادات الأسعار في المستقبل ويعدلون سلوكهم وفقا لذلك. كما يخلق دوامة الأجور والأسعار من خلال مطالبة العمال بأجور أعلى للحفاظ على قوتهم الشرائية ومستوى معيشتهم. فإذا توقعوا استمرار التضخم، فيمكن أن يتفاوضون من أجل زيادات في الأجور تتجاوز مكاسب الإنتاجية لحماية دخلهم في المستقبل. وإذا استجابت الشركات لهذه الطلبات سترفع أسعار سلعها وخدماتها للتعويض عن ارتفاع تكاليف العمالة، لضمان الحفاظ على هوامش ربحهم لمواجهة النفقات المتزايدة.
كيفية قياس التضخم
يتطلب التضخم أدوات قياس موثوقة لفهم تأثيره وتوجيه قرارات السياسة الاقتصادية. يعتمد الاقتصاديون في المقام الأول على مؤشرات الأسعار، إذ يعمل مؤشر أسعار المستهلك ومؤشر أسعار المنتج بمثابة حجر الزاوية لقياس التضخم.
- مؤشر أسعار المستهلك Consumer Price Index
يُعد مؤشر أسعار المستهلك مقياسًا مهمًا لقياس متوسط التغير بمرور الوقت في الأسعار التي يدفعها المستهلكون مقابل سلة من السلع والخدمات التي تمثل أنماط إنفاقهم النموذجية. تشمل هذه السلة العناصر الأساسية، مثل، الغذاء والسكن والنقل والرعاية الصحية والترفيه. يوفر مؤشر أسعار المستهلك صورة شاملة لتأثير التضخم على ميزانيات الأسر من خلال تتبع تغيرات الأسعار عبر هذه الفئات. يلعب مؤشر أسعار المستهلك دورًا حيويًا في التعديلات الاقتصادية المختلفة تعديل الأجور ومزايا الضمان الاجتماعي بناءً على مؤشر أسعار المستهلك لضمان الحفاظ على القوة الشرائية وسط التضخم.
كما يُستحدم مؤشر أسعار المستهلك كمعيار لتتبع القيمة المتغيرة للدولار مع مرور الوقت. مع تآكل القوة الشرائية بسبب التضخم، يعكس مؤشر أسعار المستهلك مقدار ما يشتريه الدولار في الماضي موازنةً بالحاضر.
- مؤشر أسعار المنتجين Producer Price Index
يقيس هذا المؤشر متوسط التغير في أسعار البيع التي يجريها المنتجون المحليون. يتتبع هذا المؤشر الأسعار على مستوى الجملة، مما يوفر رؤى قيمة حول التغيرات المحتملة في أسعار المستهلك في المستقبل. رغم أن التغيرات في أسعار المنتجين تسبق التعديلات في أسعار المستهلكين، إلا أن مؤشر أسعار المنتجين يكون بمثابة مؤشر رئيسي للضغوط التضخمية المستقبلية. تقوم الشركات التي تواجه ارتفاع تكاليف الإنتاج في نهاية المطاف بنقل هذه النفقات إلى المستهلكين، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار التجزئة التي تنعكس على مؤشر أسعار المستهلك.
- مقياس التضخم الأساسي
يبتعد مقياس التضخم الأساسي عن المكونات المتقلبة بسبب العوامل الموسمية أو الصدمات الخارجية، مثل، أسعار المواد الغذائية والطاقة، مما يوفر هذا المؤشر صورة واضحة عن اتجاهات التضخم الأساسية طويلة الأجل. هذا يسمح لصناع السياسات، وخاصة البنوك المركزية، بالتركيز على العوامل التي تدفع التضخم إلى ما هو أبعد من تحركات الأسعار المؤقتة. على سبيل المثال، يؤثر الارتفاع المفاجئ في أسعار النفط بسبب التوترات الجيوسياسية على مؤشر أسعار المستهلكين الرئيسي ولكنه لن يعكس بالضرورة على التضخم الأساسي.
تأثير التضخم على الاقتصاد
يُعدّ التضخم ظاهرة اقتصادية معقدة ذات تأثيرات سلبية كبيرة على الاقتصاد على عكس كونه مجرد ارتفاع في الأسعار. هناك مجموعة من العواقب السلبية الرئيسية وهي:
- تآكل القوة الشرائية للأفراد
يُعد التأثير الشهير للتضخم هو تآكل القوة الشرائية. فمع ارتفاع الأسعار، تنخفض قيمة العملة. ويترجم هذا إلى ضعف قدرة المستهلكين الشرائية، مما يؤدي لانخفاض محتمل في مستوى معيشتهم. يُعد التأثير واضحًا خصوصًا للأفراد والأسر ذات الدخل الثابت، مثل، المتقاعدين أو أولئك الذين يعتمدون على إعانات الضمان الاجتماعي، والذين تتآكل قوتهم الشرائية بسرعة إذا لم تواكب الأجور أو المزايا التضخم.
- حالة عدم اليقين وانخفاض الاستثمار الاقتصادي
يلقي التضخم المرتفع وغير المتوقع بظلال من عدم اليقين على المشهد الاقتصادي. تكافح الشركات لوضع خطط واستثمارات طويلة المدى عندما لا تستطيع التنبؤ بدقة بالتكاليف المستقبلية أو قيمة عوائدها. يؤدي هذا التردد إلى انخفاض النفقات الرأسمالية، مما يعيق النمو الاقتصادي والابتكار. لنفترض سلسلة مطاعم تواجه تقلبات في تكاليف الطعام بسبب التضخم. سيؤدّي ذلك إلى صعوبات في تخطيط قوائم الطعام واستراتيجيات التسعير، ممّا يُجبرها على اتّخاذ نهج متحفظ في التوسع أو ابتكار وجبات جديدة.
- التكاليف الخفية للتضخم
بعيدًا عن الزيادات الرئيسية في الأسعار، يولد التضخم تكاليف خفية لكل من الشركات والأفراد. تشير تكاليف القائمة إلى النفقات المرتبطة بتحديث الأسعار باستمرار بسبب التضخم. يشمل ذلك إعادة طباعة القوائم وتغيير علامات الأسعار وتحديث المواد التسويقية. تكاليف جلد الأحذية، وهو مصطلح مجازي أكثر، تعبر عن الوقت والجهد الذي يخصصه الأفراد والشركات لإدارة ممتلكاتهم النقدية خلال فترات التضخم المرتفع. يلجأ الأفراد إلى زيارة البنك المتكررٍة لتجنّب الاحتفاظ بالنقود التي تتآكل قيمتها بفعل التضخم، بينما تُخصّص الشركات موارد لإدارة تدفقاتها النقدية بكفاءةٍ للحدّ من آثاره.
الفوائد المحتملة للتضخم المعتدل
يُعدّ التضخم ظاهرة اقتصادية معقدة ذات تأثيرات إيجابية وسلبية على الاقتصاد. بالرغم من أن التضخم المُفرط مُدمرًا، إلّا أن التضخم المعتدل يجلب بعض الفوائد وهي:
- تخفيف عبء الديون
تتآكل قيمة الديون المستحقة فعليًا مع ارتفاع الأسعار والأجور. يترجم هذا إلى حاجة المقترضين إلى تخصيص جزء أصغر من دخلهم المستقبلي لخدمة ديونهم، مما يُسهل سداد القروض وتحسين الصحة المالية العامة. لنتخيل أن شركة تحصل على قرض لشراء معدات مع تضخم معتدل، من المرجح أن تزيد إيرادات الشركة المستقبلية جنبًا إلى جنب مع الأسعار، مما يُسهل سداد القرض بالقيمة الحقيقية.
- محفز للنمو الاقتصادي
عندما يتوقع المستهلكون مستوى معينًا من زيادات الأسعار في المستقبل، يُحفزوا على الإنفاق الآن بدلًا من الاحتفاظ بالنقود التي ستفقد قيمتها بمرور الوقت. مما يؤدي إلى زيادة في الإنفاق الاستهلاكي، وهو المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي. بالمثل، تميل الشركات للاستثمار في معدات جديدة أو خطط التوسع إذا كانت تتوقع أن يؤدي التضخم إلى رفع الأسعار المستقبلية وربما زيادة هوامش ربحها.
- مرونة تعديل الأسعار
تتردد الشركات في تعديل الأسعار نزولًا بسبب خطر الإشارة إلى انخفاض في الجودة أو إثارة دوامة هبوطية في الأسعار في بيئة انكماشية (حيث تنخفض الأسعار باستمرار)، يمكن أن تعيق هذه الجمود التخصيص الفعال للموارد داخل الاقتصاد. على عكس ذلك، يسمح التضخم المعتدل بتعديلات الأسعار بمرونة. تتمتع الشركات بمجال كبير لتعديل الأسعار بناءً على التغيرات في تكاليف الإنتاج أو الطلب في السوق، مما يؤدي إلى نظام اقتصادي ديناميكي مستجيب.
ما هي العلاقة بين التضخم وسعر الصرف؟
تتأثر أسعار الصرف بعوامل اقتصادية وسياسية متعددة، ومن أشد هذه العوامل الاقتصادية هي التضخم ومعدلات أسعار الفائدة الرائجة في السوق، اللذان يعكسان أثرهما على سعر الصرف للعملة الوطنية في السوق الموازية لسعر الصرف الرسمي الوطني.
ما هي العلاقة بين التضخم والكساد؟
تتداخل العلاقة بين التضخم والكساد عبر تأثيراتهما المتناقضة على النشاط الاقتصادي. في فترات الكساد، يؤدي ضعف الفاعلية الحدية لرأس المال إلى تراجع الاستثمار والإنتاج وارتفاع البطالة، مما يخفض الطلب ويزيد من البؤس. بالمقابل، التضخم يُضعف القدرة الشرائية ويزيد الأسعار، مما يعيق الاقتصاد عن استعادة التوازن. تساهم أدوات مثل أسعار الفائدة والسياسات النقدية في تخفيف آثار التضخم أو الكساد، لكن عندما تفشل، تتأثر الأسواق سلبًا، وتتعاظم الفجوة بين الاستثمار والاستهلاك، مما يؤدي إلى اضطرابات اقتصادية شديدة.
ما الذي يسبب التضخم؟
ينتج التضخم بسبب ازدياد الطلب لدى المستهلكين، ويمكن أن ينخفض ويرتفع الطلب أيضًا اعتمادًا على التطورات التي لا علاقة لها بالظروف الاقتصادية، مثل إنتاج مشاكل سلسلة التوريد والنفط المحدود.
هل التضخم سيئ؟
تعتمد الإجابة على الظروف، إذ تؤدي الزيادات السريعة في الأسعار لزعزعة الاقتصاد، ولكن يؤدي التضخم المعتدل لزيادة الأجور ونمو الوظائف.
هل يؤثر التضخم على سوق الأسهم؟
يُحدث التضخم السريع مشاكل للأسهم عادةً، وشهدت الأصول المالية أداء سيء تاريخيًا خلال أوقات ارتفاع التضخم، في حين حافظت الأصول الملموسة مثل المنازل على قيمتها بطريقة أفضل، ونتيجة لذلك، يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة لتخفيض الأجور وإبطاء الطلب ونمو الأسعار، وعندما يستجيب البنك لسياسة البنك المركزي فهذا يدل أن الاقتصاد يتجه بالتأكيد نحو التباطؤ، وبالفعل، بدأت تكاليف الاقتراض العالية في تهدئة سوق الإسكان.
الخاتمة
تعرفنا على مفهوم التضخم وهو أكثر الاصطلاحات الاقتصادية شيوعًا، ومصدر قلقٍ أساسي، ويدل التضخم على زيادة كبيرة في أسعار، وأكثر مقاييس التضخم انتشارًا هو مؤشر أسعار المستهلك، ولا يوجد إلى الآن إجماع على نسبة معدل التضخم الصحيح لاقتصادٍ ما، إلا أنه يوجد إجماع على الأثار التي يُسببها، وتُشكل مسببات التضخم موضع جدلٍ في النظريات الاقتصاديّة، إذ يعتقد بعض الاقتصاديين أن هناك أنواعٍ مختلفةٍ للتضخم، وتعرفنا على نظرية الاقتصاد الكينزي.
- Fernando, Jason. “Inflation: What It Is, How It Can Be Controlled, and Extreme Examples.” Investopedia, https://www.investopedia.com/terms/i/inflation.asp. Accessed 7 October 2022.