تُعرف كفاءة السوق مفهومًا أساسيًا في علم التمويل، إذ تُشير إلى مدى دقة انعكاس جميع المعلومات المتاحة في أسعار الأوراق المالية في الأسواق المالية، وتتميز رحلة كفاءة السوق عبر العقود الماضية بثرائها، وشهدت ظهور نظريات رئيسية، وإجراء أبحاث تجريبية مكثفة، وتطورات مهمة في النماذج المستخدمة. سنتعرف في هذه المقالة على تطور مفهوم كفاءة السوق، بدءًا من نشأته، مرورًا بنظرياته المؤثرة، وصولًا إلى التحديات التي يواجهها، وانتهاءً بالنقاش الدائر حول آثاره.
يتميز السوق المالي الكفء بأسعار أوراق مالية، مثل، الأسهم والسندات، تعكس بدقة جميع المعلومات المتاحة حول تلك الأوراق. يصبح التغلب على السوق وتحقيق عوائد استثنائية تفوق المخاطر المصاحبة أمرًا شبه مستحيل، في ظل هذه الظروف. نشأت فرضية كفاءة السوق من خلال جهود بحثية مكثفة أجراها العديد من الخبراء والمختصين في مجال الأسواق المالية.
تاريخ كفاءة السوق Market Efficiency
يُعد القرن السادس عشر نقطة انطلاق مهمة في تاريخ أفكار تحليل السوق المالي، إذ وضع عالم الرياضيات جيرولامو كاردانو Girolamo Cardano في كتابه (كتاب لعبة الحظ 1564) حجر الأساس لمبدأ المساواة في فرص الفوز والخسارة في أي لعبة قمار، وتابع سمسار الأسهم الفرنسي جوليس ريغنيول Jules Regnault هذه الأفكار بعد قرنين تقريبًا، مشيرًا في عام 1863 إلى العلاقة بين مدة الاحتفاظ بالأوراق المالية واحتمال تحقيق أرباح أو خسائر أكبر، تتناسب التقلبات في الأسعار طرديًا مع الجذر التربيعي للزمن.
واصل الفيزيائي البريطاني رايلي Rayleigh والفيلسوف جون فين John Venn مسيرة التطوير هذه في ثمانينيات القرن التاسع عشر، إذ قدما مفهوم السير العشوائي لوصف حركة أسعار الأسهم، مؤكدين على عشوائيتها وصعوبة التنبؤ بها.
شكل عام 1889 علامة فارقة في تاريخ العلوم المالية، إذ وضع الاقتصادي آرثر جيبسون في كتابه (أسواق الأسهم في لندن وباريس ونيويورك) حجر الأساس لمفهوم كفاءة السوق. أظهر جيبسون أن أسعار الاسهم تعكس بدقة جميع المعلومات المتاحة حول تلك الشركات فور طرحها للاكتتاب العام، ومهدت أفكاره الطريق لظهور فرضية كفاءة السوق في العقود التالية.
قدم عالم الرياضيات الفرنسي لويس باشيلير Louis Bachelier في بداية القرن العشرين مساهمة هائلة في هذا المجال من خلال تحليله الدقيق لعوائد الأسهم. كشف باسكاليه عن وجود (استقلالية إحصائية) في سلوكيات عوائد الأسهم، مما يعني أنها تتبع مسارًا عشوائيًا يصعب التنبؤ به، وشكل هذا الاكتشاف لاحقًا أساسًا لفرضية السير العشوائي.
بدأت الجهود المبذولة لفهم المعلومات التي تنطوي عليها أسعار الأسهم تتخذ منحىً أكثر منهجية مع عمل جون بور ويليامز عام 1938، وجادل ويليامز في كتابه (القيمة الحقيقية) بأن أسعار الأسهم تستند إلى تحليل دقيق للعوامل الاقتصادية الكامنة وراء الشركات، مُعارضًا بذلك الفكرة السائدة آنذاك والتي روج لها الاقتصادي الشهير جون مينارد كينز، والتي اعتبرت أن أسعار الأسهم مدفوعة بالمضاربات بدلًا من العوامل الاقتصادية.
تميزت هذه الفترة بوضع اللبنات الأساسية لفرضية كفاءة السوق، والتي ستشكل فيما بعد أحد أهم مرتكزات علم المالية الحديث.
أجرى الإحصائي البريطاني موريس كندال Maurice Kendall دراسة مثيرة للجدل بعنوان (تحليل السلاسل الزمنية الاقتصادية) في عام 1953. إذ حلل كندال العوائد الأسبوعية لمؤشر السوق البريطاني، متوقعًا إيجاد نمطًا منتظمًا في سلوك الأسهم. لكنه فوجئ باكتشاف أن أسعار الأسهم تتبع مسارًا عشوائيًا ولا يمكن التنبؤ به بدقة.
تبع كندال باحث أمريكي يدعى هاري روبرتس Harry Roberts، الذي أجرى دراسة مشابهة في عام 1959 باستخدام مؤشر داو جونز الصناعي. توصل روبرتس إلى نتائج مشابهة لكندال، مؤكدًا على عشوائية أسعار الأسهم وصعوبة التنبؤ بها.
أثبتت أبحاث كندال وروبرتس أهمية مفهوم السير العشوائي في فهم سلوك أسعار الأسهم، وفتحت هذه الأبحاث الباب أمام المزيد من الدراسات والنظريات في مجال تحليل السوق المالي.
قدم يوجين فاما Eugene Fama في عام 1965 نتائج ثورية تدعم فرضية السير العشوائي لأسعار الأسهم، إذ درس فاما معاملات الارتباط بين سلسلة أسعار أسهم مؤشر داو جونز الصناعي المكون من 30 سهمًا، واكتشف أن التغيرات اليومية في أسعار هذه الأسهم كانت ذات ارتباط ضعيف للغاية، بل تكاد أن تكون معدومة. وجه هذا الاكتشاف فاما إلى استنتاج تميز أسعار الأوراق المالية بخاصية السير العشوائي.
تستند خاصية السير العشوائي إلى فكرة جوهرية وهي: إذا تميزت الأسواق المالية بتدفق المعلومات بشكل سلس وحر بين جميع المشاركين، فإن أسعار الغد ستعكس فقط المعلومات الجديدة التي ستظهر غدًا، دون أي تأثير يذكر لأسعار اليوم. بالتالي، يصبح التنبؤ بأي تغير في أسعار الأوراق المالية بناءً على معلومات اليوم أمرًا مستحيلًا نظريًا.
في ذلك الوقت، لم يكن المعنى الحقيقي لأسعار الأسهم وارتباطها بالعوامل الاقتصادية اتضح بعد، مما فتح المجال أمام المزيد من البحث والنقاش في هذا المجال.
يُمثل القرن السادس عشر نقطة انطلاق محورية في تاريخ تطور أفكار تحليل السوق المالي، وضع عالم الرياضيات جيرولامو كاردانو في كتابه (كتاب لعبة الحظ 1564) حجر الأساس لمبدأ المساواة في فرص الفوز والخسارة في أي لعبة قمار، وتابع سمسار الأسهم الفرنسي جوليس ريغنيول مسيرة التطور هذه بعد قرنين تقريبًا، إذ وضح في عام 1863 العلاقة بين مدة الاحتفاظ بالأوراق المالية واحتمال تحقيق أرباح أو خسائر أكبر، مؤكدًا أن التقلبات في الأسعار تتناسب طرديًا مع الجذر التربيعي للزمن. واصل الفيزيائي البريطاني رايلي والفيلسوف جون فين مسيرة التطوير هذه في ثمانينيات القرن التاسع عشر، إذ قدما مفهوم (السير العشوائي) لوصف حركة أسعار الأسهم، مؤكدين على عشوائيتها وصعوبة التنبؤ بها.
شكل فاما في عام 1970 معالم علم المالية الحديث من خلال بحثه المشهور كفاءة سوق رأس المال واستعراض للنظرية واختبار تجريبي. وّضح فاما الإطار النظري لفرضية كفاءة السوق، والتي تنص على أن أسعار الأوراق المالية في سوق كفء تعكس بدقة جميع المعلومات المتاحة، وتتغير استجابةً لأي معلومات جديدة فور إتاحتها للمتداولين، ويشير السوق الكفء إلى بيئة تتسم بسرعة استجابة أسعار الأوراق المالية لأي تطورات جديدة، مما يعني أن الأسعار تعكس القيمة الحقيقية للأصول بدقة.
نفترض وجود عدد كبير من المحللين المهرة الذين يسعون باستمرار لتقييم القيمة الحقيقية للشركات المُدرجة في السوق في ظل فرضية كفاءة السوق، إذ يعمل المحللون على البحث والتدقيق في البيانات المالية للشركات، بالإضافة إلى تحليل عوامل السوق المختلفة، لتحديد الأسهم التي تنحرف قيمتها السوقية عن قيمتها الحقيقية. فعندما يكتشف المحللون مثل هذه الفرصة للتسعير الخاطئ، يُسارعوا إلى شراء الأسهم المُ undervalued ذات القيمة السوقية المنخفضة عن قيمتها الحقيقية، وبيع الأسهم المُ overvalued ذات القيمة السوقية المرتفعة عن قيمتها الحقيقية.
تؤدي هذه الديناميكية التنافسية بين المحللين إلى تصحيح أي اختلالات في أسعار الأوراق المالية، ودفعها نحو مستويات تعكس قيمتها الحقيقية بدقة. لذلك، تتغير أسعار الأوراق المالية باستمرار استجابةً لتدفق المعلومات الجديدة وتحليلات المحللين، مما يجعل من الصعب على أي مستثمر التفوق على أداء السوق دائمًا.
فرضية كفاءة السوق
تتضمن فرضية كفاءة السوق ثلاث صيغ أساسية وهي:
- الصيغة الضعيفة
تنص هذه الصيغة على أن أسعار الأوراق المالية في السوق تعكس جميع المعلومات المتاحة علنًا (المعلومات التاريخية، مثل، سجل أسعار الأسهم و حجم التداول والبيانات المالية للشركات المُدرجة)، وبناءً على هذه الصيغة، لا يمكن للمستثمرين تحقيق أرباح غير عادية دائمًا من خلال تحليل البيانات التاريخية أو استخدام استراتيجيات التداول الفني.
- الصيغة المتوسطة
تعكس أسعار الأوراق المالية المعلومات العامة المتاحة ذات الصلة في هذا الصيغة، بالإضافة للمعلومات التاريخية (معلومات القوائم المحاسبية أو المالية أو المعلومات المتعلقة بالسوق والاقتصاد عمومًا).
- الصيغة القوية
تُعرف الصيغة القوية لكفاءة السوق بأنها أكثر صرامة من الصيغتين السابقتين، إذ تفترض أن أسعار الأوراق المالية تعكس فوريًا جميع المعلومات المتاحة، سواء كانت عامة أو خاصة، ويشمل ذلك المعلومات التاريخية والمعلومات الحالية، بالإضافة إلى المعلومات الداخلية التي لا يعرفها سوى عدد محدود من الأشخاص، مثل، أعضاء مجلس الإدارة والموظفين داخل الشركة.
لذلك، أصبح من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، على أي مستثمر تحقيق أرباح غير عادية دائمًا بناءً على فرضية كفاءة السوق، من خلال اتباع استراتيجيات تداول تقليدية، وارتبطت هذه الفرضية باسم الاقتصادي يوجين فاما الذي دافع عنها بشدة حتى وفاته عام 2017، على الرغم من ظهور العديد من الانتقادات التي أشارت إلى نقاط ضعف في إطارها النظري. تضمنت هذه الانتقادات ملاحظة حالات شذوذ في الأسواق المالية، وتمكّن بعض المستثمرين من تحقيق أرباح استثنائية لا يمكن تفسيرها من خلال فرضية الكفاءة أو نماذج تسعير الأصول الرأسمالية التقليدية.
تأثير التوجهات المستقبلية على كفاءة السوق
تأثير البيانات الضخمة والتكنولوجيا المتقدمة على كفاءة السوق من خلال:
- البيانات الضخمة والتكنولوجيا
يُعدّ ظهور البيانات الضخمة والتقنيات المتقدمة بمثابة ثورة في مجال مناقشة كفاءة السوق، يؤثر نشر المعلومات ومعالجتها كثير على سرعة تكيف الأسواق مع المعلومات الجديدة، ولكن، لا تزال هناك تساؤلات حول مدى كفاءة أسواق العملات المشفرة، إذ يصعب التحقق من صحة المعلومات المتداولة بسبب لامركزية هذه الأسواق وغياب الهيئات التنظيمية.
- الكفاءة في أسواق العملات المشفرة
تتميز هذه الأسواق بتقلبات عالية ونشاط مكثف، إذ تُثير خصائصها الفريدة تساؤلات جوهرية حول مدى إمكانية تطبيق نظريات كفاءة السوق التقليدية عليها.
- الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة
أدى التركيز المتزايد على العوامل البيئية والاجتماعية والحوكمة في قرارات الاستثمار إلى إثارة المناقشات حول تأثير المعلومات غير المالية على كفاءة السوق، ويثير دمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية والحوكمة تساؤلات حول كيفية دمج الأسواق لهذه البيانات في الأسعار.
الخاتمة
تعرفنا على مفهوم كفاءة السوق Market Efficiency فهي رحلة مستمرة لاكتشاف وتعلم وتطور، لفهم أفضل لأسعار الأصول واستراتيجيات الاستثمار في عالم ديناميكي. مع استمرار تطور الأسواق، تبقى كفاءة السوق موضوعًا حيويًا للباحثين والممارسين وصانعي السياسات.
يطرح تقاطع التمويل والتكنولوجيا والاعتبارات المجتمعية تحديات وفرصًا جديدة. يبقى الاستكشاف المستمر لكفاءة السوق ضروريًا لفهمٍ شاملٍ للأسواق المالية.