تُسمى الاقتصادات التي تعاني من عجز في الحساب الجاري وعجز مالي بالاقتصادات التي تعاني من عجز مزدوج أو العجز التوأم Twin Deficit. يُعد السيناريو العكسي، أي فائض في الحساب الجاري وفائض مالي سيناريو، أفضل عمومًا، ولكن يعتمد جزء كبير من طبيعة الاقتصاد على الظروف، ويُستشهد بالصين غالبًا كمثال لدولة تتمتع بحسابات جارية طويلة الأجل وبفائض مالي.
تمثل نظرية العجز التوأم مفهومًا رئيسيًا في الاقتصاد الكلي، إذ يستكشف العلاقة المعقدة بين العجز المالي لبلد ما وعجز الحساب الجاري، وتتعمق هذه النظرية في ديناميكيات كيفية تفاعل هذين العجزين، والتأثير على بعضهما البعض، وبالتالي تشكيل المشهد الاقتصادي للأمة. في هذه المقالة الشاملة، سوف نتعمق في الأصول والمكونات الرئيسية والأدلة التجريبية والانتقادات والآثار السياسية لنظرية العجز التوأم.
نشأة وتطور نظرية العجز التوأم
اكتسبت نظرية العجز التوأم شهرة في النصف الأخير من القرن العشرين خلال الثمانينيات والتسعينيات، وارتبطت بالولايات المتحدة؛ الدولة التي شهدت نموًا متزامنًا في كل من عجزها المالي، وعجز حسابها الجاري، ويشير العجز المالي للفرق بين الإنفاق الحكومي والإيرادات، وأما العجز في الحساب الجاري، فهو الفرق بين الصادرات والواردات من السلع والخدمات.
ثنائية العجز التوأم Twin Deficit
يتألف العجز التوأم من عجزين وهما:
- العجز المالي
يحدث العجز الميزانية أو عجز المالي عندما يتخطى إنفاق الدولة إيراداتها، فيبدو بديهيًا أن العجز المالي ليس شيئًا محمودًا، لكن الاقتصاديين الكينزيين يجادلون بأن العجز ليس ضارًا بالضرورة، وإن الإنفاق بالعجز يكون أداة مفيدة لتحفيز الاقتصاد المتعثر. يساهم إنفاق الدولة في أوقات الركود على المشاريع الكبيرة والبنية التحتية في تعزيز الطلب ككل، إذ ينفق العمال المعينون للمشاريع أموالهم على تغذية الاقتصاد وزيادة أرباح الشركات.
تمول الحكومات العجز المالي من خلال إصدار السندات، إذ يشتري المستثمرون السندات، ويقرضون الأموال للحكومة ويكسبون فائدة على القرض، فعندما تسدد الحكومة ديونها يسترجع أصل السند للمستثمرين. يُنظر إلى تقديم قرض لحكومة مستقرة على أنه استثمار آمن في العادة، إذ يمكن الاعتماد على الحكومات عمومًا في سداد ديونها لأن قدرتها على تحصيل الضرائب تمنحها طريقة موثوقة لجني الإيرادات.
- عجز الحساب الجاري
يشير عجز الحساب الجاري أن الدولة تنفق على الواردات والالتزامات الخارجية أكثر مما تكسبه من الصادرات والاستثمارات الأجنبية. يشمل الحساب الجاري التجارة في السلع والخدمات، والدخل من الاستثمارات، والتحويلات من جانب واحد مثل المساعدات الخارجية.
تساهم العديد من العوامل في عجز الحساب الجاري للدولة مثل اختلال التوازن التجاري وذلك عندما تستورد دولة ما أكثر من صادراتها بسبب عوامل مثل ارتفاع طلب المستهلكين على السلع الأجنبية أو نقص القدرة التنافسية في الصناعات المحلية. كما تؤدي التدفقات الكبيرة من الاستثمارات الأجنبية إلى زيادة واردات السلع الرأسمالية، مما يساهم في عجز الحساب الجاري. بالإضافة إلى ذلك يجعل انخفاض قيمة العملة الواردات أكثر تكلفة، مما يفاقم الاختلالات التجارية ويؤدي إلى ارتفاع العجز.
ترابط العجز التوأم مع السياسات المالية التوسعية وتدابير التقشف
يكمن جوهر فرضية العجز التوأم بأن العجز المالي وعجز الحساب الجاري مترابطان، فيمكن أن يكون للتغيرات في السياسات المالية آثار على كل من الاقتصاد المحلي والتجارة الدولية مثل زيادة الإنفاق الحكومي أو التخفيضات الضريبية.
يعتقد بعض الاقتصاديين أن العجز الكبير في الميزانية يتعلق بعجز كبير في الحساب الجاري، وتُعرّف نظرية الاقتصاد الكلي هذا المفهوم باسم (فرضية العجز التوأم). المنطق الكامن وراء هذه النظرية هو أن التخفيضات الضريبية الحكومية التي تقلل نسبة الإيرادات وتزيد معدل العجز تؤدي إلى ارتفاع نسبة الاستهلاك لأن دافعي الضرائب ينفقون أموالهم الجديدة، ويؤدي تزايد الإنفاق إلى خفض معدل الادخار الوطني، مما يؤدي إلى زيادة مبلغ الأموال التي تقترضها الدولة من الخارج.
عندما لا يكون لدى الدولة الأموال اللازمة لتمويل إنفاقها المالي، تلجأ إلى المستثمرين الأجانب كمصدر للاقتراض غالبًا. في الوقت نفسه، تقترض الدولة من الخارج، ويستعمل مواطنوها الأموال المقترَضة عادةً لشراء البضائع المستوردة. تدعم البيانات الاقتصادية فرضية العجز التوأم أحيانًا.
إذا تبنت الحكومة سياسات مالية توسعية، مثل زيادة الإنفاق العام أو التخفيضات الضريبية، فيمكنها تحفيز الطلب المحلي، رغم أنها ستساهم في اتساع العجز المالي. بالمقابل، يمكن أن يؤدي ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي إلى زيادة الواردات، مما يساهم في عجز الحساب الجاري. كما يؤثر تطبيق تدابير التقشف للحد من العجز المالي تأثيرًا مثبطًا على الطلب المحلي مثل خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب، والذي بدوره يؤدي إلى انخفاض الواردات، وتضييق العجز في الحساب الجاري.
الأدلة التجريبية ودراسات الحالة
هناك أدلة تجريبية تدعم نظرية العجز التوأم في العديد من البلدان، مثل، الولايات المتحدة، ودول منطقة اليورو، إذ يساهم زيادة الإنفاق الحكومي والتخفيضات الضريبية في العجز المالي خلال فترات التوسع الاقتصادي، ففي الوقت نفسه، يمكن أن يؤدي ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي والعملة القوية إلى زيادة الواردات، مما يؤدي إلى عجز في الحساب الجاري.
النقد والخلافات لنظرية العجز التوأم
لا تخلو نظرية العجز التوأم من الانتقادات رغم توفيرها إطارًا قيمًا لفهم الترابط بين المتغيرات المالية والاقتصادية الخارجية. يرى بعض الاقتصاديين أن العلاقة بين العجز المالي وعجز الحساب الجاري غير واضحة دائمًا، ويمكن أن تتأثر بعدد لا يحصَ من العوامل، مثل، ديناميكيات سعر الصرف، ومعدلات الادخار المحلية، والظروف الاقتصادية العالمية.
كما يسلط النقاد الضوء على التحدي المتمثل في الفصل بين السبب والنتيجة في العلاقة بين العجز المالي وعجز الحساب الجاري. فهناك جدل كبير حول السياسات المالية إذا كانت تؤدي إلى اختلالات التوازن الخارجية أم أنها استجابات لظروف اقتصادية أوسع نطاقًا.
الآثار المترتبة على السياسة
يؤثر فهم نظرية العجز التوأم على صناع السياسات تأثيرًا كبيرًا، إذ تشير النظرية إلى أن التدابير الرامية التي تستخدم لمعالجة أحد العجزين، يمكن أن يكون لها تداعيات على العجز الآخر، على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي خفض العجز المالي من خلال تدابير التقشف إلى انخفاض الطلب المحلي، مما يؤثر على الواردات وربما يؤدي إلى تضييق عجز الحساب الجاري. بعكس ذلك، يمكن أن تساهم تدابير التحفيز المالي في حدوث عجز مالي وعجز تجاري.
كما يواجه صناع السياسات عملية توازن دقيقة، خاصة أثناء فترات الركود الاقتصادي أو فترات التوسع الاقتصادي السريع، لذلك يُصبح إيجاد التوازن الصحيح بين السياسات المالية التي تحفز النمو وتلك التي تضمن المسؤولية المالية أمرًا بالغ الأهمية.
أصبح التنسيق بين البلدان أمرًا بالغ الأهمية نظرًا للترابط بين الاقتصادات في عالم تحكمه العولمة، فالسياسات التي تتبناها إحدى الدول من الممكن أن تخلف تأثيرات غير مباشرة على بلدان أخرى، مما يجعل التعاون الدولي ضروريًا لمعالجة الخلل في التوازن.
الخاتمة
تبقى نظرية العجز التوأم ذات صلة في المشهد الاقتصادي العالمي المعاصر، ويستمر الترابط بين الاقتصادات، والاختلالات التجارية، والسياسات المالية التي تنتهجها الحكومات في تشكيل ديناميكيات أوضاع المالية العامة والحساب الجاري. بينما يواجه العالم تحديات جديدة، مثل، تغير المناخ، والتحولات الجيوسياسية، توفر نظرية العجز التوأم إطارًا لفهم التداعيات المحتملة لقرارات السياسة على الصحة الاقتصادية للدولة.