كيف تتغير الاقتصادات؟ يُلخص تاريخ التقدم الاقتصادي برمته في المراحل الأربع لتطوّر كعكة عيد الميلاد، إذ كانت الأمهات يصنعن كعكات عيد الميلاد من الصفر باعتبارها من بقايا الاقتصاد الزراعي، ويخلطن السلع الزراعية (الدقيق والسكر والزبدة والبيض) التي تكلف مبلغًا ضئيلًا من المال.
دفعت الأمهات مع تقدم الاقتصاد الصناعي القائم على السلع دولارًا أو دولارين لبيتي كروكر مقابل المكونات المخلوطة مسبقًا، وعندما ترسخ اقتصاد الخدمات في وقت لاحق، طلب الآباء المشغولون الكعك من المخبز أو متجر البقالة وكان سعره 10 أو 15 دولاراً، أي ما يعادل أضعاف تكلفة المكونات المعبأة.
لا يُعد الآن الآباء كعكة عيد الميلاد ولا حتى يقيمون الحفل، وبدلاً من ذلك، فإنهم ينفقون 100 دولار أو أكثر “للاستعانة بمصادر خارجية” للحدث بأكمله لشركات تُنظّم حدثًا لا يُنسى للأطفال، وغالبًا ما تُقدّم الكعكة مجانًا. مهّد هذا الانتقال التدريجي الطريق لصعود اقتصاد التجربة Experience Economy.
صعود اقتصاد التجربة Experience Economy
كان للاقتصاديين تجاربٌ عشوائيةٌ في مجال الخدمات، إذ تبدو التجارب عرضًا اقتصاديًا مختلفًا عن ذاك الذي تقدمه الخدمات، والتي ينظر إليها بوصفها خدمات مرافقة للسلع، وأصبح اليوم بالإمكان تحديد وصف أفضل لهذا العرض الاقتصادي الرابع أو المرحلة الرابعة من التطور الاقتصادي، وأصبح المستهلكين الآن يرغبون بلا شك بمزيدٍ من التجارب.
ازدادت أعداد الشركات المتفاعلة مع رغبات المستهلكين من خلال تعزيز تنظيم التجارب، بالإضافة إلى ذلك، أصبحت هذه الخدمات سلعةً بحد ذاتها، مثل السلع المعروضة التي كانت تُقدّم معها، مثلًا، خدمات التخابر الهاتفي عبر المسافات الكبيرة والتي تحدد أسعارها تبعًا للتجارب؛ إذ ظهرت كخطوة تالية في تطوّر القيمة الاقتصادية، فمن الآن فصاعدًا؛ سوف تجد الشركات الرائدة سواءً كانت تبيع للشركات أو للمستهلكين أن معركتها التنافسية القادمة تكمن في تنظيم التجارب.
تطوّر القيمة الاقتصادية
تُعد التجربة عرضٌ حقيقي كتقديم أي خدمة أو منتج أو سلعة، وتحاول الكثير من الشركات اليوم في اقتصاد الخدمات تضمين التجارب مع عروضها التقليدية من أجل بيعها على نحو أفضل، ولتحقيق الاستفادة التامة من تنظيم التجارب، ويجب على الشركات بالرغم من ذلك أن تصمم وعن قصد مجموعةً من التجارب الحديثة التي تتقاضى مقابلها رسومًا.
لا يكون هذا التحوّل من بيع الخدمات لبيع التجارب أمرًا سهلًا للشركات القائمة، ولاسيما بعد التحوّل الاقتصادي الكبير من الصناعة إلى اقتصاد الخدمات؛ ويعني هذا أن الشركات التي لا ترغب بالتحوّل إلى مجرد سلعة لا بُدّ لها من إنجاز ترقية سريعة لعروضها للوصول لمراحل متقدمة من القيمة الاقتصادية، ولا يكمن السؤال في الواقع بهل يجب على الشركات التي تعمل الآن أن تدخل في اقتصاد التجربة أم لا؟ بل السؤال الأقوى هو؛ كيف ومتى يحدث ذلك؟
سنقدّم نظرة مفصّلة على خصائص التجارب ومبادىء تصميمها وكيف يمكن للشركات أن تعطي إجابة عن هذا السؤال.
إقرأ أيضًا: الاقتصاد الرقمي: محرك رئيسي للتنمية الاقتصادية في البلدان العربية
بناء التجارب قادرة عىل تحقيق مبيعات
لا بُدّ من تقدير الفرق بين الخبرات والخدمات، وهنا سنستشهد بحلقة من برنامج تلفزيوني عُرِض بعنوان تاكسي Taxi؛ إذ قرر إيجي وهو سائق سيارة أجرة أن يصبح أفضل سائق سيارة أجرة في العالم، فقدّم المشروبات والشطائر، وتجوّل مرات ومرات في المدينة على إيقاع أغاني فرانك سيناترا Frank Sinatra، فتحولت تجربة ركوب سيارة أجرة عادية إلى حدث لا يُنس، وخلق إيجي شيئًا آخرًا تمامًا وقدّم عرضًا اقتصاديًا متميزًا، وكانت تجربة ركوب سيارة الأجرة خاصته أكثر قيمة لعملائه من الخدمة الرئيسية التي تقدّمها سيارات الاًجرة العادية.
استجاب إيجي بسعادة للزبائن في البرنامج التلفزيوني، وقدّم لهم أفضل النصائح، وطلب بعضهم من إيجي الذهاب إلى الأماكن نفسها والإطالة في الطريق لكي يتمتعوا بالتجربة معه، فالخدمة الجديدة التي قدّمها إيجي عن طريق سيارة الأجرة كانت مرحلة تطور للتجربة التي حققت له مبيعات أفضل لاحقًا.
تتكون التجربة عندما تستعمل الشركة عمدًا الخدمات كمرحلة والسلع كدعائم لإشراك العملاء الأفراد بأسلوب يخلق حدثًا لا يُنسى، وتكون غالبًا السلع قابلة للتبديل، في حين تمثل السلع الملموسة والخدمات غير الملموسة تجارب لا تُنسى.
يقدّر مشترو الخبرات تقديرًا كبيرًا لما تقدّمه لهم الشركات خلال مدة زمنية محددة، ولأنهم يبحثون عن تجربة مشابهة لتلك التي تقدّمها شركة والت ديزني The Walt Disney؛ العملاقة في اقتصاد التجارب لعملائها الذين تدعوهم جميعًا بالضيوف.
بينما تعتمد العروض الاقتصادية على المنتجات والسلع التي تُعد جميعها شيئًا خارجيًا للمشترين، قدّمت التجارب أمورًا شخصية عميقة تتمركز في ذهن الزبائن وتتصل مباشرةً بتجاربهم الفيزيائية والعاطفية والمعنوية مع المنتج، وقد تتشابه المنتجات، أما التجارب فلا تتشابه وتختلف من زبون لآخر، وتبدو كأنها حالة تفاعل ومشهد مسرحي ما بين حادثة محددة وعقل الزبون نفسه.
المميزات الاقتصادية لاقتصاد التجربة
تكمن الخبرات دائمًا داخل الأعمال الترفيهية، وتوجد حقيقة تنص أن والت ديزني والشركة التي أسسها اعتمدت على الإبداع، لكن يتجذر في يومنا هذا مفهوم بيع التجربة الترفيهية في الشركات البعيدة عن المنتزهات والمسارح، وتشجّع التكنولوجيا الحديثة خصوصًا الأنواع الجديدة من الخبرة، على سبيل المثال: الألعاب التفاعلية، وغرف الدردشة على الإنترنت، والمحاكاة القائمة على الحركة والواقع الافتراضي والألعاب المتعددة اللاعبين، وتشجّع جميعها قوة المعالجة المطلوبة لتقديم تجارب قوية أكثر من أي وقت مضى، وتدفع الآن الطلب على الخدمات والسلع في الصناعة الحاسوبية.
بيّن رئيس شركة إنتل أندرو غروف Andrew Stephen Grove في خطاب ألقاه في معرض كومديكس التجاري في مجال الحاسوب في نوفمبر / تشرين الثاني عام 1996 قائلًا: “نحتاج إلى إعادة النظر لأعمالنا أكثر من أنها مجرد تصنيع أجهزة الحاسوب الشخصية وبيعها، فعملنا هو تقديم الخبرات والمعلومات التفاعلية النابضة بالحياة.”
اقتصاد التجربة خارج شركات الترفيه
يكون الطعام في المطاعم ذات الطابع الخاص مجرد دعامة لما يُعرف باسم الترفيه، مثل: مقهى هارد روك Hard Rock، بلانيت هوليوود Planet Hollywood؛ كما تجذب المخازن المستهلكين من خلال تقديم الأنشطة الترفيهية، والأحداث الترويجية والعروض الرائعة، وهو ما يُسمى بالتسوق المسلي، مثل مخازن كابيلا ونيكيتون، وريكريتيونال إكيبمنت إنكوربوراتد.
لكن لا تقتصر التجارب على الترفيه، إذ تبني الشركات التجارب لكي يشارك العملاء فيها بطريقة شخصية لا تُنسى، وفي قطاع السفر؛ أشار السير كولين مارشال Colin Marshall؛ وهو رئيس شركة الخطوط الجوية البريطانية السابق، أن السلع الأساسية هي التفكير في الأعمال التجارية التي تساعدنا في حالتنا فقط؛ إذ تنقل الأشخاص من النقطة ألف إلى النقطة باء في الوقت المحدد، وبأقل تكلفة ممكنة، ولكن ما تفعله الخطوط الجوية البريطانية هو تجاوز الوظيفة والتنافس على أساس تقديم تجربة، وتستخدم الشركة خدمتها الرئيسية أي السفر بوصفها مرحلة لتجربة مميزة في الطريق، وتحاول تحويل السفر الجوي من تجربة صعبة ومحمومة ومربكة إلى تجربة مريحة.
لا تقتصر التجارب على الصناعات الاستهلاكية فقط، بل تضم قطاعات الأعمال Business to Business، وتكون حريصة على بناء تجاربها أيضًا، فعلى سبيل المثال؛ تُطلق شركة مينابوليس Minneapolis لخدمات التركيب والتصليح الحاسوبي على نفسها اسم فيك سكواد غيم بلي squad game play، ويرتدي وكلاؤها زيًا يميزهم؛ وهو عبارة عن قمصان بيضاء مع ربطات عنق سوداء رقيقة، ويضعون حقائب جيب خاصة، وشارات تحمل أسماءهم، كما يقودون السيارات القديمة، فيحولون خدماتهم إلى تجارب لا تُنسى تعلق بالذاكرة.
تؤجر الكثير من الشركات فرقًا مسرحية مثل المدربين المقيمين في سانت لويس Saint Louis وفرق الموسيقى العالمية، من أجل تغيير الاجتماعات التقليدية بإضافة ما يُسمى بفعالية التآزر عن طريق رقص السامبا Samba التي تحفّز التفكير والإبداع.
يؤدي مسوقو الأعمال؛ أي التبادل التجاري الذي يحدث بين الشركات مع بعضها على صعيد الأعمال وليس الأفراد كتعامل تاجر الجملة مع تاجر المفرق، إلى خلق أماكن حديثة تعد مراكز جذب، بخلاف ما تفعله ديزني لبيع خدماتها وسلعها، إذ افتتحت شركة سيليكون غرافيكس في حزيران / يونيو عام 1996 مركز فيسيونار إيوم ريالتي بهدف الجمع بين المهندسين والعملاء معًا في بيئة يتفاعلوا فيها مع تصورات المنتجات ثلاثية الأبعاد في الزمن الحقيقي، فيمكن للعملاء العرض، واللمس، والسماع، وكذلك المشي والتحرك، أو حتى الطيران عن طريق إمكانيات المنتج التي لا تُعد ولا تُحصى، وقال رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي إدوارد ماكراكن Edward McCracken في نهاية المطاف، “هذه هي الحوسبة التجريبية، إذ يمكن لعملائنا أن يعرفوا ما سوف تبدو عليه منتجاتهم قبل التصنيع”.
الخاتمة
تعرفنا على اقتصاد التجربة والمراحل الذي مر بها الاقتصاد وهي أربع مراحل: السلع، البضاعة، الخدمات، الخبرة، وكان للاقتصاديين تجارب عشوائيةٌ في مجال الخدمات، إذ تبدو التجارب عرضًا اقتصاديًا مختلفًا عن ذاك الذي تقدمه الخدمات، وتُعد التجربة عرضٌ حقيقي كتقديم أية خدمة أو منتج أو سلعة، وتتكون التجربة عندما تستعمل الشركة عمدًا الخدمات كمرحلة، والسلع كدعائم، وبالرغم من ذلك؛ لا تزال تتقاضى رسومًا على خدماتها وسلعها بالوقت الذي تمر فيه هذه الشركات بتجارب كثيرة.