يُعرف تاريخ النماذج الاقتصادية بأنه رحلة رائعة عبر التطور الفكري للفكر الاقتصادي، مما يعكس التفاعل الديناميكي بين الأفكار والأحداث والتغيرات المجتمعية. من أنصار المذهب التجاري في القرن السادس عشر إلى النماذج الرياضية المعقدة للاقتصاد الحديث، إذ شهد كل عصر تطورًا وصقلًا للنظريات لشرح وفهم الظواهر الاقتصادية. تقدم هذه المقالة استكشافًا تفصيليًا لتاريخ النماذج الاقتصادية، مع تسليط الضوء على المعالم الرئيسية والمفكرين المؤثرين والتحولات النموذجية التي شكلت هذا التخصص.
إحدى المحاولات المبكرة لتقديم تقنية لمقاربة النماذج الاقتصادية كانت من المدرسة الفيزيوقراطية الطبيعية الفرنسية في القرن الثامن عشر 1801 – 1900، وتجدر الإشارة من بين هؤلاء الاقتصاديين تحديدًا إلى فرانسوا كويسناي Francisco Quesnay استخدام الجداول التي أُطلق عليها اسم الجداول الاقتصادية، وتُرجمت هذه الجداول في الحقيقة إلى مصطلحات أكثر حداثة على أنها نموذج ليونتييف Leontief.
استخدم فرانسوا نماذج احتمالية بسيطة لفهم اقتصاديات التأمين خلال القرن الثامن عشر أي قبل فترة طويلة من تأسيس الاقتصاد السياسي الحديث الذي تميز في كتاب ثروة الأمم لآدم سميث في عام 1776، كان هذا استنباطًا طبيعيًا لنظرية القمار، إذ لعب دورًا مهمًا في تطوير نظرية الاحتمالات نفسها وفي تطور العلوم الاكتوارية؛ وهو مبحث علمي يستخدم الطرق الحسابية والإحصائية لتقدير الحجم، وساهم الكثير من عمالقة رياضيات في القرن الثامن عشر في هذا المجال.
عالج دي موافر de Moivre بعض هذه المشاكل في الطبعة الثالثة من كتاب مبدأ الفرص في عام 1730 تقريبًا، ودرس نيكولا برنولي Nikolaus Bernoulli المشاكل المتعلقة بالمدخرات والفائدة في كتاب فن التخلق حتى في عام 1709، ودرس دانييل برنولي Daniel Bernoulli الاحتمال الأخلاقي في كتابه ميستورا سورتيس، فقدم بما يسمّى اليوم المنفعة اللوغاريتمية للمال وطبقها على مشاكل القمار والتأمين، ومن ضمنها حلّ مشكلة سانت بطرسبرغ المتناقضة، ولخص لابلاس Laplace كل هذه التطورات في نظريته التحليلية للاحتمالات 1812، ومع مرور الوقت، جاء ديفيد ريكاردو David Ricardo وكان لديه الكثير من الرياضيات الراسخة للاستفادة منها.
المذهب التجاري: القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر
ظهرت النماذج الاقتصادية الأولى خلال فترة المذهب التجاري، والذي هيمن على الفكر الاقتصادي من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، إذ أكد المفكرون التجاريون، مثل توماس مون وجان بابتيست كولبير، على أهمية تراكم الثروة، وخاصة الذهب والفضة، من خلال توازن تجاري إيجابي، وكان يُنظر إلى الحكومات باعتبارها لاعبين حاسمين في الشؤون الاقتصادية، وركزت السياسات على تعزيز الصادرات وتقييد الواردات لجمع المعادن الثمينة.
الفيزيوقراطيون: القرن الثامن عشر
تحدى الفيزيوقراطيون في فرنسا في القرن الثامن عشر الأفكار التجارية عن طريق نموذج اقتصادي جديد، بقيادة فرانسوا كيسناي، إذ قدم الفيزيوقراطيون مفهوم عدم التدخل، بحجة أن الازدهار الاقتصادي سوف ينجم عن السماح لقوانين الاقتصاد الطبيعي بالعمل دون تدخل الحكومة، وشددوا على أهمية الزراعة كمصدر رئيسي للثروة وقدموا أول نموذج اقتصادي معروف في شكل اللوحة الاقتصادية، التي توضح التدفقات الدائرية للدخل.
الاقتصاد الكلاسيكي: أواخر القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر
ظهرت المدرسة الكلاسيكية، والتي يجسدها آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وجون ستيوارت ميل، في أواخر القرن الثامن عشر وهيمنت على الفكر الاقتصادي طوال القرن التاسع عشر، اعتمد الاقتصاديون الكلاسيكيون على فكرة الأسواق ذاتية التنظيم زاعمين أن المنافسة والسعي وراء المصلحة الذاتية ستؤدي إلى التخصيص الأمثل للموارد، فكانت نظرية قيمة العمل، والميزة النسبية، ومفهوم اليد الخفية من المبادئ الأساسية للاقتصاد الكلاسيكي.
الاقتصاد الماركسي: القرن التاسع عشر
قدم كارل ماركس نموذجًا اقتصاديًا جديدًا يركز على ديناميكيات الرأسمالية والصراع الطبقي بناءً على الاقتصاد الكلاسيكي، أكدت نظريات ماركس، الموضحة في “داس رأس المال”، على دور العمل في خلق القيمة، وتنبأت بالتناقضات المتأصلة في الرأسمالية، وتصورت الانتقال إلى مجتمع شيوعي لا طبقي.
إقرأ أيضًا: الأنظمة الاقتصادية وأنواعها
الاقتصاد الكلاسيكي الجديد: أواخر القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين
كانت الثورة الكلاسيكية الجديدة، التي قادها اقتصاديون، مثل، ألفريد مارشال وليون والراس، بمثابة خروج عن الاقتصاد الكلاسيكي، إذ قدم الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد مفهوم المنفعة، مؤكدين على دور تفضيلات المستهلك، وطوروا نماذج رياضية لتحليل سلوك السوق، إذ أصبحت نظرية العرض والطلب، والمنفعة الحدية، وكفاءة الأسواق التنافسية عناصر أساسية للاقتصاد الكلاسيكي الجديد.
الاقتصاد الكينزي: القرن العشرين
أدى الكساد الكبير في الثلاثينيات إلى إعادة تقييم النماذج الاقتصادية، مما أدى إلى ظهور الاقتصاد الكينزي، إذ تحدى هذا النموذج، الذي وضعه جون ماينارد كينز، الأفكار الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة من خلال التأكيد على دور التدخل الحكومي في استقرار الاقتصادات، ودعا الاقتصاد الكينزي إلى سياسات مالية ونقدية لإدارة الطلب الكلي ومواجهة الانكماش الاقتصادي.
النظرية النقدية والاقتصاد الكلاسيكي الجديد: أواخر القرن العشرين
قدم اقتصاديون مثل ميلتون فريدمان النظرية النقدية للاستجابة لأوجه القصور الملحوظة في النماذج الكينزية، والتي أكدت على دور المعروض النقدي في التأثير على النتائج الاقتصادية. شهد أواخر القرن العشرين أيضًا ظهور الاقتصاد الكلاسيكي الجديد، إذ قدم مفكرون مثل روبرت لوكاس وتوماس سارجنت توقعات عقلانية ونماذج توازن تهدف إلى توفير أسس الاقتصاد الجزئي لتحليل الاقتصاد الكلي.
الاقتصاد الكينزي الجديد: أواخر القرن العشرين حتى الوقت الحاضر
سعى الاقتصاد الكينزي الجديد إلى التوفيق بين النهجين من خلال الجمع بين رؤى التقاليد الكينزية والتقاليد الكلاسيكية الجديدة، وقدم اقتصاديون مثل ستانلي فيشر وجريجوري مانكيو نماذج تتضمن الأسعار والأجور الثابتة، مما يسمح بانحرافات قصيرة المدى عن التوازن مع الحفاظ على المبادئ الكلاسيكية الجديدة على المدى الطويل.
النماذج الاقتصادية المعاصرة
شهد القرن الحادي والعشرين انتشار نماذج اقتصادية متنوعة، متأثرة بالتقدم التكنولوجي والعولمة والتعاون متعدد التخصصات، واكتسب الاقتصاد السلوكي، الذي يتضمن رؤى مستمدة من علم النفس أهمية كبيرة، الأمر الذي يشكل تحديًا للافتراضات التقليدية حول اتخاذ القرار العقلاني. أصبحت نماذج التوازن العام العشوائي الديناميكي DSGE شائعة في تحليل تأثيرات الاقتصاد الكلي لمختلف العوامل و الصدمات، بينما يستكشف الاقتصاد المعقد الأنظمة الاقتصادية باعتبارها أنظمة تكيفية معقدة.
التحديات والتوجهات المستقبلية
يكشف تاريخ النماذج الاقتصادية عن عملية مستمرة من التكيف والتحسين، مدفوعة الأوضاع الاقتصادية المتغيرة والتيارات الفكرية المتطورة، وبالرغم من ذلك، يواجه هذا المجال تحديات مثل معالجة عدم المساواة، ودمج الاستدامة البيئية، والتغلب على تعقيدات عالم معولم، ويستمر البحث عن نماذج اقتصادية أكثر واقعية وشمولية، مع التأكيد على أهمية النهج متعدد التخصصات والفهم الدقيق للسلوك البشري في عملية صنع القرار الاقتصادي.
خاتمة
يُعد تاريخ النماذج الاقتصادية كشهادة على الطبيعة الديناميكية للفكر الاقتصادي، فمن المذهب التجاري إلى الاقتصاد السلوكي المعاصر، جلب كل تحول نموذجي رؤى وأدوات جديدة لفهم تعقيدات النظم الاقتصادية، بينما يتصارع الاقتصاديون مع تحديات الحاضر والمستقبل، ويبقى التطور المستمر للنماذج الاقتصادية جزءًا لا يتجزأ من تعزيز فهمنا للقوى التي تشكل المجتمعات والاقتصادات في جميع أنحاء العالم.