شهد العالم تطور آلة النقود خلال فترات متتالية نتيجة مراحل عدة مر بها الاقتصاد العالمي، إذ مرّ الاقتصاد العالمي بمرحلة الاكتفاء الذاتي، من ثم بمرحلة المقايضة، وأخيرًا بمرحلة الاقتصاد النقدي. سوف نتعرف في هذا المقال كلًا من هذه المراحل على حده.
مرحلة الاكتفاء الذاتي والمقايضة
بدأ الإنسان حياته على وجه الأرض معتمدًا على فطرته في الحصول على حاجاته وحاجات أُسرته التي يعولها، فشهدت البشرية أول شكل من أشكال التعاون وهو التعاون الأسري، إذ بدأت الأسرة الصغيرة بالتوسع وأخذ شكل القبيلة، فكانت مطالب الحياة بسيطة ومحدودة، لذلك كانت القبيلة تستهلك ما تنتجه لقلة حاجاتها التي تريد إشباعها.
ظهرت أول مرحلة من مراحل المقايضة مع زيادة حاجات الإنسان وتنوع السلع التي ينتجها، وهي التخصص. بدأ ظهور التعاون وتقسيم العمل ترافقًا مع زيادة المنتجات وتنوعها كوسيلةٍ لإشباع الرغبات، وأدى مبدأ التخصص إلى ظهور مبدأ توزيع الأدوار والمسئوليات حسب كفاءة كل فرد من أفراد المجتمع وقدراته، وهكذا استطاع كل فرد أن يبادل ما يفيض عن حاجته من سلعٍ، ويتخصص في إنتاجها لهم، بسلع أُخرى يحتاجها الفرد، ويتخصص آخرون في إنتاجها له.
من هنا عرف الإنسان عملية تبادل المنتجات أو ما يسمى بنظام “المقايضة”، ومع مرور الزمن، ظهرت مساوئ هذا النظام، فكان على كل من يرغب في إتمام عملية التبادل أن يبحث عن ذلك الشخص الذي تتوافق رغباته معه حتى تحدث عملية المقايضة، مما يستغرق بعض الوقت.
لذلك، ظهرت أول مشكلةٍ تواجه هذا النظام متمثلة في عدم إمكان توافق رغبات المتعاملين، وصعوبة تحقيق فكرة الادخار نتيجة لتعرض العديد من السلع للتلف مع مرور الزمن، بالإضافة إلى ذلك، واجه نظام المقايضة صعوبة تجزئة بعض السلع، فكما يوجد عدد من أنواع السلع يمكن تجزئتها إلى كمياتٍ صغيرةٍ دون إهلاكها، مثل، القمح والفاكهة والزيوت، كان هناك بالمقابل عدد آخر من السلع التي يصعب بل يستحيل تجزئتها، مثل، الدواب والديار، كل هذه العوامل أدت بطبيعة الحال إلى عدم رغبة المتعاملين في استخدام هذا النظام والبحث عن بديل له.
مرحلة الاقتصاد النقدي
بعد أن واجه الإنسان صعوبات كبيرة مع نظام المقايضة، ظهرت الحاجة إلى وسيلة تسهل تبادل السلع والخدمات وتتيح تقدير قيمة الأشياء بشكل أكثر دقة وعدالة. وهكذا، بدأت النقود بالظهور كحل مبتكر للتغلب على عيوب المقايضة، وأصبحت أداة موحدة للتعاملات ومقياسًا للقيمة. وتطورت النقود عبر الزمن تطورًا ملحوظًا، حتى اتخذت شكلها الحديث الذي نعرفه اليوم، مما ساهم في تعزيز الكفاءة الاقتصادية وتسهيل العمليات التجارية.
مراحل تطور النقود
مرّت النقود بمجموعة من المراحل التي تطّور بها ووصوله لما هو عليه اليوم:
- مرحلة النقود السلعية
ظهر أول شكل من أشكال النقود على شكل سلع مقبولة، فتعارف الإنسان على استخدامها كوسيط في عملية التبادل، واستخدم الإنسان أنواعًا لا حصر لها من سلع كوسيط للقيمة ومقياس لها، فاستخدم الإغريق الماشية كنقود، وتعارف أهل سيلان على استخدام الأفيال كنقود، فبينما استخدم الهنود الحمر التبغ، أما أهل الصين فكانت نقودهم هي السكاكين؛ أي كانت النقود على شكل سكاكين كبيرة في الفترة من عام 1122 حتى عام 255 قبل الميلاد، وثم استخدم أهل الصين النقود على شكل سكاكين صغيرة خلال الفترة من عام 7 إلى عام 22 بعد الميلاد.
- مرحلة النقود المعدنية
اكتشف المتعاملون مع ازدياد حجم الصفقات المبرمة وتكرار التجارب أن المعادن هي أفضل وسيط لإجراء عملية التبادل بينهم من ناحية كونها أقوى على البقاء، كما يمكن تجزئتها وتشكيلها بالحجم والشكل المطلوبين.
فضل الإنسان استخدام الذهب والفضة عن باقي المعادن للأسباب الآتية:
- القبول العام الذي لاقاه كل من الذهب والفضة باعتبارهما رمزًا للثراء والرخاء بين الدول، بالإضافة إلى تمتعهما ببريق يلفت الأنظار، مما أدى إلى انتشار استخدامهما في صناعة الحلي.
- سهولة الحمل والنقل.
- سهولة تمييز نوعيتها واستحالة تزويرها.
- المتانة وعدم التآكل.
- ثبات القيمة نسبيًا.
- القابلية للطرق وسهولة التشكيل بالوزن والشكل والحجم المطلوب.
- القابلية للادخار دون التعرض للتلف أو الصدأ أو الحريق.
سادت النقود المصنوعة من الذهب والفضة كوسيط في التعاملات التجارية، وأصبحت النقود الذهبية بمثابة إيصال يفيد بأن حاملها أضاف قيمة معينة إلى رصيد الثروة القومية، أو اكتسب حقًا بالقيمة نفسها من شخص أسهم في هذه الثروة.
جاء آدم سميث ليؤكد على هذا المفهوم، إذ قال: إن جنيه الذهب هو سند إذني مسحوب على تجار المنطقة بكمية معينة من السلع الضرورية والكمالية، والزيادة التي حدثت في دخل الشخص الذي تسلم الجنيه هو عبارة عن الأشياء التي يمكن شراؤها بالجنيه وليس الجنيه نفسه.
ظل الإنسان يستخدم الذهب والفضة لفترة طويلة من التاريخ، إذ تربعت فيها النقود المصنوعة من الذهب والفضة على عرش النظام النقدي العالمي، حتى أوائل القرن العشرين.
- مرحلة النقود الورقية
اقتصر الصيارفة في البداية على الاحتفاظ بودائع النقود بهدف حمايتها من السرقة، مقابل أجر يتناسب مع مدة بقاء الوديعة ومبلغها. كما عملوا أيضًا في إقراض النقود بفائدة مع أخذ رهونات كضمان للسداد. ومع توسع التجارة، ارتفعت الودائع لدى المصرفيين، الذين لاحظوا أن جزءًا منها يبقى بصفة دائمة دون سحب، مما دفعهم إلى استغلال هذه الأموال غير المستخدمة في عمليات إقراض بفائدة، وهو ما زاد من أرباحهم.
لتشجيع أصحاب الأموال على الإيداع، تنازل الصيارفة عن اقتضاء أجر مقابل حفظ النقود، ثم بدأوا في منح فوائد مغرية على هذه الإيداعات مقابل إيصالات يُصدرها الصراف. ازدادت ثقة الناس في هذه الإيصالات حتى صارت تُتداول في السوق دون الحاجة إلى صرفها ذهبًا.
أما أول محاولة لإصدار نقود ورقية بالشكل الحديث، فجاءت عندما أصدر بنك استكهولم بالسويد عام 1656 سندات ورقية تمثل دينًا على البنك وقابلة للتداول والصرف بالذهب.
ظهرت أولى أشكال النقود الورقية في صورة إيصالات تحولت لاحقًا إلى سندات، وأصبحت تُتداول دون الحاجة إلى تظهير. مثلت هذه السندات دينًا على البنوك، ولذا كانت مغطاة بنسبة 100% من الذهب، إلى أن شعرت المؤسسات النقدية بإمكانية الإقراض دون الحاجة إلى غطاء ذهبي كامل.
نتيجة عدم تغطية السندات بالذهب، تعرضت البنوك للإفلاس في فترات الحروب والأزمات النقدية، ما دفع المشرعين في دول عديدة إلى قصر إصدار النقود على بنك مركزي خاضع للإشراف الحكومي.
مع بداية القرن الثامن عشر، بدأت النقود الورقية في الانتشار كبديل للنقود المعدنية، وتعهّدت الهيئات المصدرة بتحويل قيمتها إلى ذهب عند الطلب. تميزت هذه النقود بثبات قيمتها، إلى أن تدهورت الأوضاع الاقتصادية في القرن العشرين، واضطرت السلطات إلى وقف صرف قيمتها بالذهب.
- مرحلة النقود الائتمانية
جاءت النقود الائتمانية لتنهى الصلة نهائيًا بين النقود والمعادن النفيسة مثل الذهب، فأعطى انقطاع هذه الصلة مرونةً كبيرةً لعرضها في الأسواق، وتُعد هذه المرونة أو الحرية في الإصدار سلاحاً ذو حدَّين، إذ يمكن زيادة الإصدار أو إنقاصه لمواجهة احتياجات التبادل التجاري، غير أن التمادي في الإصدار يؤدي إلى إحداث موجات متتالية من التضخم وارتفاع الأسعار، مما يؤدي إلى زيادة وهمية في الدخول النقدية للأفراد، لذلك يتطلب إصدار النقود الائتمانية عملية رقابة حكومية شديدة، فضلًا عن رقابة المؤسسات النقدية.
تنقسم النقود الائتمانية إلى نقود قانونية ونقود ائتمانية:
- النقود القانونية
وهي النقود الأساسية المعاصرة، وتستمد قوتها من قوة القانون وقبول الأفراد لها قبولًا عامًا، ونظرًا لاحتكار البنك المركزي حق إصدارها. تمثل هذه النقود دينًا على الدولة تجاه القطاع الخاص، إذ يترتب على البنك المركزي الاحتفاظ بأصول مساوية في قيمتها لقيمة ما أصدره من نقود، وتسمى هذه الأصول بالغطاء النقدي.
تنقسم النقود القانونية إلى نوعين هما:
- نقود ورقية إلزامية: هي أوراق نقد يصدرها البنك المركزي، ويكون إصدارها بناء على قواعد وقوانين تسنّها السلطات التشريعية والحاكمة، وتُحدد هذه القواعد الكمية التي تصدر منها.
- نقود مساعدة: تأخذ هذه النقود عادةً شكل مسكوكات معدنية أو تأخذ أحيانًا نقود ورقية ذات فئات صغيرة، ويكون الهدف من إصدارها مد الأسواق بعملات تساعد على عملية التبادل.
- نقود الودائع
تتمثل نقود الودائع في المبالغ المودعة في الحسابات الجارية في البنوك، وتكون قابلة للدفع عند الطلب ويمكن تحويلها من فرد لآخر بواسطة الشيكات.
يُعرف الشيك بأنه أمر موجه من المودع، أي الدائن إلى البنك أي المدين، لكي يدفع لأمر صاحب الدين، أو لأمر شخص آخر أو لحامله، مبلغًا معينًا من النقود.
بذلك نجد أن نقود الودائع ليس لها كيان مادي ملموس، إذ أنها توجد في صورة حساب بدفاتر البنوك، وتمثل النقود الحسابات في البنوك وليس الشيكات التي تمثل وسيلة تحويل لهذه النقود.
تختلف نقود الودائع عن النقود القانونية في أنها نقود مسجل عليها اسم صاحبها، ويلزم لانتقال ملكيتها تغيير هذا الاسم، وذلك عكس النقود القانونية التي يطبق عليها المبدأ القانوني الملكية سند الحيازة التي تعنى أن حائزها هو مالكها وانتقال ملكيتها تُتداول وتنتقل حيازتها من شخص لآخر.
الخاتمة
تعرفنا على نشأة النقود وأهميتها، إذ نجد أن أنواع النقود تدرجت وتنوعت بتطور النظم الاقتصادية ودرجة نموها، فأصبحت النقود من المتغيرات الاقتصادية المهمة التي أصبحت تؤثر وتتأثر بغيرها من المتغيرات الأخرى التي تشمل الإنتاج والعمالة والدخل والاستهلاك والاستثمار.