يُعد العمل القوة الدافعة لكلّ اقتصاد، إذ تُدفع الأجور لليد العاملة لتمويل الإنفاق الاستهلاكي، وأي عمل تقدّمه اليد العاملة يُعد جوهريًا للشركات، وبالمثل، يمثّل العاملون العاطلون عن العمل إنتاجًا مُمكنًا غير مستثمر ومهدورًا ضمن الاقتصاد، بالتالي تشكل البطالة مصدر قلق كبير في الاقتصاد الكلي. يبين مصطلح البطالة الرسمي عدد العاملين المدنيين الذين يبحثون بطريقة نشطة عن عمل ولا يتلقون في الوقت الحالي أية أجور، وتستبعد إحصائيات مصطلح البطالة الرسمي تحديدًا أولئك الذين يرغبون بالعمل لكنهم أصبحوا محبطين وتوقفوا عن البحث عن عمل، وبالتالي فيكون معدل البطالة الحقيقي أعلى دائمًا من معدل البطالة الرسمي.
تٌعرف البطالة بأنها قضية اقتصادية حاسمة تؤثر على الأفراد والأسر والاقتصادات في جميع أنحاء العالم. إذ تُعبر عن الحالة التي لا يتمكن فيها الأفراد القادرون والراغبون في العمل على العثور على عمل. تتخطى البطالة كونها مجرد رقم في الإحصائيات، لتُلقي بظلالها على مختلف جوانب الحياة، مخلفةً آثارًا اجتماعية واقتصادية عميقة. سنتعرف في هذا المقال على الجوانب المختلفة للبطالة، (أسبابها وآثارها وحلولها المحتملة)، لتوفير فهم شامل لهذا التحدي الاقتصادي المستمر.
تعريف البطالة Unemployment
يُطلق مصطلح البطالة على الأشخاص الذين ليس لديهم وظيفة يُمارسونها، ولم يستطيعوا الانخراط في القوى العاملة الفعالة في المجتمع؛ مع أنهم يسعون للحصول على وظيفة باستمرار.
يُعرف الشخص العاطل عن العمل تبعًا لمنظمة العمل الدولية بأنّه كل شخص قادر على العمل، وراغب فيه، ويبحث عنه، ويقبل بالعمل بالأجر المنتشر، ولكن باءت محاولاته دون جدوى، ولا يُمكن استخدام مصطلح البطالة للدلالة على الأشخاص العاطلين عن العمل فقط لأنهم لا يعملون، فيمكن أن يكونون أطفالًا، أو كبارًا في السن، أو عاجزين، أو مرضى، أو متقاعدين.
أما سياسيًا تُعرف البطالة بأنّها عدم توافر الإمكانيات لدى الدولة لتشغيل الأيدي العاملة. يعود السبب في ذلك إلى الوضع الاقتصادي ضمن مؤسسة أو مهنة محددة، وبعض السياسات الحكومية التي لا تتدخّل في تأمين العمل، وتباطؤ النشاط الاقتصادي، وغيرها، أما التعريف القانوني للبطالة فيُختصر بأنّه انعدام المورد الشخصيّ أو العمل الكافي لإعالة النفس والعائلة.
أول ظهور لمفهوم البطالة
ظهر مفهوم البطالة لأول مرّة في التاريخ منذ بدايات القرن السابع عشر الميلادي، إذ كان يُقصد به التعطل مؤقتًا عن العمل، وأُتُخذ هذا المفهوم منذ عام 1782م، أما التعريف الحديث للبطالة ظهرَ في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، إذ أُضيفَ على تعريف السابق وهو الأشخاص الذين لا يعملون ولكنهم يبحثون دائمًا عن عمل، وأُجري أول تعداد للبطالة في عام 1937م.
يُعرف معدل البطالة Unemployment Rate بأنه النسبة المئوية للأشخاص العاطلين عن العمل، ولحساب معدّل البطالة لا بد من معرفة عدد الأشخاص في القوى العاملة، إذ تشمل القوى العاملة الأشخاص الذينَ لديهم وظيفة، مع أهمية معرفة مقدار العمل مدفوع الأجر الذي يحتاجه شخص ما حتّى يُعد أن لديه وظيفة، بالإضافة للأشخاص العاطلين عن العمل.
ترتبط البطالة بالأشخاص الذينَ يملكون القدرة أو الرغبة أو المؤهلات للالتزام بوظيفة مدفوعة الأجر، ويندرج هؤلاء تحت مسمّى القوى العاملة، ولحساب معدّل البطالة رياضيًا يُمكن اعتماد المعادلة التالية:
معدل البطالة = (عدد الأشخاص العاطلين على العمل ÷ عدد القوى العاملة)* 100%
يشتهر معدّل البطالة في سوق العمل، إذ تكمن أهميّته في عرضه للقوى العاملة المؤهلة للعمل، ويشير المؤشّر على فعالية وكفاءة الاقتصاد في الدولة، ويصف مدى جودة أداء سوق العمل، إذ يعكس قدرة أو عدم قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل كافية للأشخاص المؤهلين للعمل أو الذين يرغبون في الحصول على وظيفة.
أنواع البطالة
يمكن تصنيف البطالة إلى عدة أنواع حسب أسبابها وخصائصها:
- البطالة الاحتكاكية Frictional Unemployment
يحدث هذا النوع من البطالة عندما يكون الأفراد عاطلين عن العمل مؤقتًا أثناء الانتقال من وظيفة إلى أخرى. يكون ذلك قصير الأجل وجزءًا طبيعيًا من سوق العمل الديناميكي، يبحث العمال باستمرار عن فرص أفضل أو ينتقلون إلى مواقع جديدة.
- البطالة الهيكلية Structural Unemployment
تنشأ البطالة الهيكلية من عدم التوافق بين مهارات القوى العاملة والمهارات التي يطلبها أصحاب العمل. يمكن أن يحدث هذا بسبب التقدم التكنولوجي، أو التغيرات في تفضيلات المستهلك، أو التحولات في الاقتصاد. يحتاج العمال إلى إعادة التدريب أو اكتساب مهارات جديدة للعثور على عمل في الصناعات الناشئة.
- البطالة الدورية Cyclical Unemployment
ترتبط البطالة الدورية بالدورة الاقتصادية. ينخفض الطلب على السلع والخدمات خلال فترات الركود الاقتصادي أو الركود، مما يؤدي إلى انخفاض الإنتاج، بالتالي فقدان الوظائف. على العكس من ذلك، تميل البطالة الدورية إلى الانخفاض مع زيادة الطلب على العمالة خلال التوسعات الاقتصادية.
- البطالة الموسمية Seasonal Unemployment
يحدث هذا النوع من البطالة في الصناعات ذات التغيرات الموسمية في الطلب، مثل، الزراعة والسياحة وتجارة التجزئة. يواجه العمال في هذه القطاعات فترات من البطالة خارج مواسم الذروة.
- البطالة طويلة الأجل Long-term Unemployment
تشير البطالة طويلة الأجل إلى الأفراد الذين بقيوا عاطلين عن العمل لفترة طويلة (عادة 27 أسبوعًا أو أكثر). ينجم ذلك عن التغيرات الهيكلية في الاقتصاد، أو الظروف الشخصية، أو الركود الاقتصادي طويل الأمد.
أسباب البطالة
تُعد البطالة تحديًا معقدًا للأفراد والاقتصادات على حد سواء. من أجل تطوير حلول فعالة، يجب علينا أن نتعمق في الأسباب الجذرية التي تعيق التشغيل الكامل وهي:
- التقلبات الدورية: الانكماش والتقلبات الاقتصادية
يُعد الركود الاقتصادي والانكماش من العوامل الرئيسية المساهمة في البطالة الدورية. خلال هذه الفترات، تواجه الشركات انخفاض الطلب على السلع والخدمات، ولكي تبقى هذه الشركات واقفة على قدميها، فإنها تلجأ في معظم الأحيان إلى تسريح العمال وخفض الإنتاج، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة. يمكن أن يصبح هذا الوضع غير المستقر نبوءة ذاتية التحقق، إذ يؤدي إلى انخفاض الإنفاق الاستهلاكي بسبب فقدان الوظائف إلى إضعاف الاقتصاد كثيرًا. يمكن للعوامل الاقتصادية العالمية، مثل، السياسات التجارية والأزمات المالية والظروف الاقتصادية الدولية أن تؤثر أيضًا على مشهد التوظيف الوطني. على سبيل المثال، يمكن للحرب التجارية بين الاقتصادات الكبرى أن تعطل سلاسل التوريد وتؤدي إلى إغلاق المصانع، مما يؤثر على التوظيف عبر الحدود.
- التقدم التكنولوجي ونزوح الوظائف
يُعدّ التقدم التكنولوجي سلاحًا ذو حدين فيما يتعلق بتشغيل العمالة، إذ يُحفّز الإنتاجية والابتكار من ناحية، بينما يُؤدي إلى فقدان الوظائف واستبدال العمال بآلات وأتمتة من ناحية أخرى. يمكن للأتمتة والذكاء الاصطناعي والتطورات الأخرى أتمتة المهام وجعل بعض الوظائف قديمة. تُؤدي البطالة الهيكلية إلى معاناة العمال من صعوبة العثور على وظائف جديدة. تُصبح هذه الظاهرة مُقلقةً خصوصًا مع تسارع وتيرة التغير التكنولوجي، ممّا يُشكّل تحديًا كبيرًا للعمال في الحفاظ على مهاراتهم مُتوافقةً مع متطلبات سوق العمل المُتغيّرة.
- فجوة المهارات: عدم تطابق التعليم والتدريب
يؤدي عدم التوافق الخطير بين المهارات التي تمتلكها القوى العاملة والمهارات التي يطلبها أصحاب العمل إلى البطالة الهيكلية. يمكن أن تنبع فجوة المهارات هذه من عدة عوامل:
أنظمة التعليم غير الملائمة
يواجه نظام التعليم الحالي تحديات كبيرة في تحضير الطلاب لمتطلبات وظائف المستقبل. تهيمن التكنولوجيا على مختلف مجالات الحياة، وتُظهر المناهج الدراسية ثغرات كبيرة في التركيز على مهارات أساسية، مثل، التفكير النقدي، وحلّ المشكلات، ومهارات القراءة والكتابة الرقمية. ممّا يُهدّد بتخريج طلابٍ غير مُجهّزين للمنافسة في سوق العمل المُتغيّر، ممّا قد يُؤدّي إلى تفاقم مشكلتي البطالة وعدم التوافق بين مهارات الخريجين ومتطلبات الوظائف.
نقص التدريب المهني
لا يُناسب التعليم الأكاديمي التقليدي جميع الأفراد، ممّا يُؤكد على أهمية تنويع مسارات التعليم لتشمل برامج التدريب المهني. فعندما لا تُولي الأنظمة التعليمية اهتمامًا كافيًا لمثل هذه البرامج، التي تُزود الأفراد بمهارات مُتخصّصة مُتعلّقة باحتياجات سوق العمل، يُقلّل ذلك من فرص حصول الذين يُفضّلون مساراتٍ غير أكاديمية على وظائف مُجزية تناسب مهاراتهم واهتماماتهم.
التغيرات السريعة في الصناعة
تتجاوز سرعة التغير التكنولوجي قدرة برامج التعليم والتدريب على التكيف. بحلول الوقت الذي يكتسب فيه العمال مهارات جديدة، ربما يكون مشهد الصناعة تغير فعليًا، مما يتطلب مجموعة مهارات مختلفة تمامًا.
- الاستعانة بمصادر خارجية للوظائف والمنافسة الدولية
أدت العولمة، وهي الترابط بين اقتصادات العالم، إلى الاستعانة بمصادر خارجية للوظائف في البلدان ذات تكاليف العمالة المنخفضة. مما يعزز التجارة الدولية ويخلق فرصًا جديدة في مجالات، مثل، الصناعات الموجهة للتصدير، فإنه يمكن أيضًا أن يحلّ محل العمال في الصناعات المحلية التي تكافح من أجل التنافس مع انخفاض تكاليف الإنتاج في الخارج. تؤثر العولمة على تشغيل العمالة بطرق متفاوتة فبعض القطاعات مثل التصنيع تكون عرضة لفقدان الوظائف من غيرها.
- سياسات سوق العمل والعواقب غير المقصودة
يمكن أن يكون لسياسات سوق العمل، مثل، قوانين الحد الأدنى للأجور، ولوائح العمل، وإعانات البطالة، تأثير كبير على معدلات البطالة. تهدف هذه السياسات إلى حماية حقوق العمال ورفاههم، فيمكن أن تؤدي أحيانًا إلى مثبطات التوظيف أو تؤدي إلى عواقب غير مقصودة من خلا:
قوانين الحد الأدنى للأجور ولوائح العمل
تفرض العديد من البلدان قوانين الحد الأدنى للأجور والذي يؤدي ارتفاعه إلى تثبيط الشركات عن توظيف موظفين جدد، وخاصة العمال الشباب أو أولئك الذين يدخلون سوق العمل لأول مرة. مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب. بالإضافة إلى ازدياد تكلفة التوظيف في الشركات مع تزايد صرامة أنظمة العمل، وحماية سلامة العمال وحقوقهم. مما يجعلهم مترددين في توسيع قوتهم العاملة أو يحفزهم على أتمتة المهام كلما أمكن ذلك.
- العوامل الشخصية والظروف الفردية
تساهم الظروف الفردية التي تتجاوز العوامل الاقتصادية في البطالة. يمكن للقضايا الصحية والمسؤوليات العائلية وقيود التنقل أن تحد من قدرة الشخص على البحث بنشاط عن عمل أو الحفاظ عليه. يمكن للتمييز على أساس العمر أو الجنس أو العرق أو الإعاقة أن يزيد من تفاقم البطالة لدى فئات معينة، مما يعيق حصولهم على فرص متساوية في سوق العمل. تتطلب معالجة هذه التحديات اتباع نهج متعدد الأوجه يشمل تعزيز الاندماج الاجتماعي، وتوفير تكييف الهواء وتوفير خيارات رعاية الطفل التي يمكن الوصول إليها، ومكافحة الممارسات التمييزية.
يستطيع صناع السياسات والشركات والمعلمون وضع استراتيجيات مستهدفة لسد فجوة المهارات، من خلال فهم هذه الأسباب المتعددة الأوجه للبطالة، وزيادة فرص العمل، وتعزيز سوق عمل شاملًا ومرونًا. ولكن بالمقابل يتطلب ذلك جهد تعاوني لتزويد الأفراد بالمهارات التي يحتاجون إليها لتحقيق النجاح في الاقتصاد الحديث، وخلق بيئة تنظيمية تشجع نمو الوظائف، ومعالجة العوامل الاجتماعية والشخصية التي يمكن أن تعيق فرص العمل.
- الانفجار السكاني السريع
يمثل الحجم والتركيب النوعي والعمري للسكان المصدر الطبيعي لقوة العمل في ظل الظروف الاقتصادية التي يعيشها المجتمع، فلا شك أن النمو العددي لحجم السكان يعكس أثره على حجم الداخلين لسوق العمل الجدد سنويًا ويتمثل الانفجار السكاني في زيادة عدد الأفراد القادرين علي العمل سريعًا جدًا مقابل ثبات عدد الوظائف تقريبًا أو ازديادها ببطئ جدًا.
غالبًا ما تتبنى الدولة سياسة توظيف الخريجين من الجامعات والمعاهد العليا إلا أنه نظرًا للتوسع الضخم في التعليم بمراحله المتنوعة وزيادة معدلات النمو السكاني والإقبال الشديد على التعليم أدى إلى تزايد الخريجين والتزام الدولة بتعيين المخرجات إلى اكتظاظ أجهزة الدولة بعمالة زائدة لا تضيف إنتاجًا للدولة بل أسهمت في زيادة معدلات التضخم وانخفاض إنتاجية العمل وأصبحت سياسة التعيين الفورية للخريجين تمثل عبئًا اجتماعيًا واقتصاديًا ومن ثم كان على خريجي الجامعات وغيرهم من مراحل التعليم الأخرى الانتظار لسنوات لخلق فرص عمل لهم.
العلاقة بين التضخم والبطالة
يُسلّط منحنى فيليبس Phillips Curve الضوء على السبب في حدوث البطالة، إذ يوجد علاقة بين التضخم والبطالة، وينخفض معدل البطالة كلما ازداد معدل التضخم. هناك مجموعة متنوعة من العوامل التي يكون لها تأثير على المنحنى، والفكرة الرئيسية هي أنّه لا وجود أي سيناريو تكون فيه البطالة معدومة أو التضخم معدومًا على الأجل الطويل. كما يوجد مفاضلة بين العمالة والكفاءة. تعظم الشركات أرباحها عندما تنتج أكبر عدد ممكن من السلع بأقل سعر، لكن في بعض الحالات تكون العمالة هي مُكلفة وأقل كفاءة من المعدات الرأسمالية، واعتمادًا على ذلك، هناك مفاضلة دائماً بين تكلفة إنتاجية اليد العاملة والمعدات الرأسمالية التي تغني عن العاملين، والتي تقلل بدورها بطريقة فعّالة عدد الوظائف المتاحة، وبالمثل، تُعد العمالة الهيكلية هي مشكلة متكررة مع تقدّم التكنولوجيا، إذ يجد العاملون أنّ مهاراتهم لم تعد تتناسب مع احتياجات أرباب العمل، وبالتالي عليهم أن يخضعوا للتدريب والتأهيل لطالما أنّ الصناعات أصبحت تعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا الحديثة.
الخاتمة
نستنتج مما سبق أن البطالة لها أثر قوي على اقتصاد الدولة ومصدر خطر في معظم الأوقات، وتعرفنا على أنواع البطالة ومنها البطالة الاحتكاكية، والدورية والهيكلية، ومنحى منحنى فيليبس الذي يبين العلاقة بين التضخم والبطالة، وأنه أصبحت العمالة في وقتنا الحالي تعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا الحديثة.