نشأت علاقات تبادلية وتجارية بين الدول منذ قديم الأزل واستمرت إلى يومنا هذا، واقترح مؤيدو التجارة مع ازدياد حركة التبادل والتجارة أنه يجب تحرير التجارة من أجل تعزيز نمو الاقتصاد، يُعد تحرير التجارة موضوعًا مثيرًا للجدل، إذ يزعم منتقدوها أن تلك السياسة سوف تكلّف السكان وظائفهم، لأن السلع الرخيصة ستغزو الأسواق المحلية للبلاد، ويمكن أيضًا أن تكون البضائع أقل أمانًا وجودةً من المنتجات المحلية المنافسة التي تخضع لفحوصات صارمة للتأكد من سلامة وجودة المنتجات.
ما هو تحرير التجارة Trade Liberalization؟
إذ يُشير مصطلح تحرير التجارة Trade Liberalization إلى تقليل أو إزالة الحواجز أمام التبادل الحرّ للسلع بين الدول والتجارة الدولية، مثل إزالة حواجز التعريفات الجمركية والحصص والقيود التجارية الأخرى، من أجل تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة القدرة التنافسية وتعزيز الرفاهية من خلال السماح للبلدان بالتخصص في إنتاج السلع والخدمات التي تتمتع فيها بميزة نسبية.
بالمقابل، يزعم مؤيدو تحرير التجارة أن هذا التحرير سيزيد الكفاءة وسيُقلل من التكاليف التي يتحملها المستهلك، وسيُعزز النمو الاقتصادي، وتعد السياسة الحمائية Protectionism نقيضًا لتحرير التجارة؛ وهي سياسة اقتصادية لتقييد الواردات من البلدان الأخرى، وتتميز بوجود حواجز ولوائح صارمة في الأسواق، وتتواجد نتيجة الاندماج وتحرير التجارة الناتج بين البلدان باسم العولمة.
السياق التاريخي لتحرير التجارة العالمية
يعود أصل فكرة تحرير التجارة إلى النظريات الاقتصادية الكلاسيكية، ولا سيما مفهوم الميزة النسبية Comparative Advantage الذي قدّمه الاقتصادي ديفيد ريكاردو David Ricardo، وهي ميزة تتمتع الدولة فيها عندما يمكنها إنتاج سلعة بتكلفة أقل من السلع الأخرى، وتستفيد الدول وفقًا لهذه النظرية من التخصص في إنتاج الخدمات والسلع التي تتمتع بميزة نسبية وتداولها مع الدول الأخرى، واكتسب تحرير التجارة زخمًا على مرّ السنين من خلال المعالم التاريخية الكثيرة، إذ أدركت البلدان أهمية التعاون الدولي منذ أعقاب الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية وشرعت في مبادرات لتعزيز تحرير التجارة، ووضع الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة الجات في عام 1947 الأساس لقواعد التجارة العالمية وخفض التعريفات عن طريق جولات متتالية من المفاوضات.
اتفقت جولة أوروغواي Uruguay Round لمفاوضات الجات على إنشاء منظمة التجارة العالمية، وتوسّعت ولاية منظمة التجارة العالمية إلى ما بعد تخفيض التعريفة لتشمل التجارة في الخدمات والملكية الفكرية وتسوية المنازعات، وتعمل منظمة التجارة العالمية كمنتدى للدول الأعضاء للتفاوض وتطبيق القواعد والاتفاقيات التجارية، واختتمت هذه الجولة في عام 1994.
مراحل تحرير التجارة
يمرّ تحرير التجارة بمجموعة من المراحل وهي كالآتي:
- تخفيض التعريفة الجمركية
تُشكّل التعريفات أو ضرائب الاستيراد عائقًا كبيرًا أمام التجارة عبر التاريخ، إذ يبدأ تحرير التجارة غالبًا بتخفيض التعريفات الجمركية على السلع المستوردة، مما يجعلها ميسورة التكلفة ومتاحة للمستهلكين، كما لعبت اتفاقيات التجارة الإقليمية، مثل اتفاقية التجارة الحرّة لأمريكا الشمالية نافتا NAFTA والاتحاد الأوروبي، دورًا حاسمًا في خفض التعريفات الجمركية بين الدول الأعضاء.
- الحواجز غير الجمركية
يمكن أن تُعيق الحواجز غير الجمركية non-tariff barriers الحصص والإعانات واللوائح الفنية ومتطلبات ترخيص التجارة وغيرها الكثير، ويُشار إليها اختصارًا NTBs، ويتضمن تحرير التجارة معالجة هذه العوائق لخلق المزيد من تكافؤ الفرص للتجارة الدولية، إذ تلعب منظمة التجارة العالمية The World Trade Organization دورًا حاسمًا في التفاوض بشأن الاتفاقات وإنفاذها للحدّ من الحواجز غير التعريفية ويُشار إليها اختصارًا WTO.
- الخدمات والاستثمارات
يمتد تحرير التجارة أيضًا إلى الخدمات والاستثمارات، إذ تفتح البلدان أسواقها أمام مقدمي الخدمات الأجانب والمستثمرين، مما يسمح بزيادة المعاملات عبر الحدود في قطاعات مثل التمويل والاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل، وتتضمن الاتفاقيات الثنائية والإقليمية غالبًا أحكامًا تتعلق بالخدمات والاستثمارات.
إيجابيات تحرير التجارة
يُشكل تحرير التجارة وإزالة أو تقليل الحواجز أمام التجارة الدولية حجر الزاوية في السياسة الاقتصادية في العديد من البلدان، لأن تحرير التجارة يعزز التجارة الحرة، ويقضي على التدابير الحمائية، ويقلل الحواجز التجارية، ويهدف بالإضافة إلى ذلك إلى تعزيز الكفاءة الاقتصادية، وتحفيز النمو، وتعزيز التكامل العالمي.
- النمو الاقتصادي والتنمية
يلعب تحرير التجارة دورًا حاسمًا في تعزيز النمو الاقتصادي والتنمية، إذ يسمح للشركات المحلية بالوصول إلى عملاء جدد والوصول إلى أسواق أكبر في الخارج من خلال توسيع الوصول إلى الأسواق، وتؤدي زيادة التجارة إلى وفورات الحجم والتخصص ومكاسب الإنتاجية، والتي تعزز بدورها مستويات الإنتاج والعمالة والدخل، ويشجع تحرير التجارة الاستثمار الأجنبي المباشر Foreign Direct Investment من خلال خلق مناخ استثماري أكثر ملاءمة، وجذب تدفقات رأس المال، وتسهيل نقل التكنولوجيا ويُشار إليها اختصارًا FDI، وتساهم هذه العوامل مجتمعةً في ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي وتحسين مستويات المعيشة.
- تعزيز الكفاءة والقدرة التنافسية
يعزز تحرير التجارة الكفاءة الاقتصادية من خلال تعريض الصناعات المحلية للمنافسة الدولية، ويُحفز الشركات على تحسين كفاءتها وعلى الابتكار واعتماد أفضل الممارسات لتبقى قادرة على المنافسة بالإضافة إلى مع رفع التدابير الحمائية، وتؤدي المنافسة المتزايدة إلى تخصيص الموارد بناءً على الميزة النسبية، مما يسمح للبلدان بالتركيز على الصناعات التي تتمتع بالميزة التنافسية، ويمكّن هذا التخصص الاقتصادات من تخصيص الموارد بكفاءة أكثر، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية الشاملة.
- فوائد المستهلك وزيادة الاختيار
يفيد تحرير التجارة المستهلكين من خلال زيادة تنوع المنتجات وتوفير الوصول إلى مجموعة واسعة من السلع والخدمات، إذ يختار المستهلكون من بين مجموعة أكبر من المنتجات، وغالبًا بأسعار أقل مع تقليل الحواجز التجارية، كما تشجع المنافسة المتزايدة في السوق المنتجين على تحسين جودة سلعهم وخدماتهم، مما يعود بالفائدة على المستهلكين، بالإضافة إلى ذلك، يُعزز تحرير التجارة تدفق الأفكار والمعرفة، ويُسهّل نشر التقنيات والابتكارات الجديدة التي تعزز في نهاية المطاف رفاهية المستهلكين.
- الحد من الفقر وتحسين الرفاه
يحد تحرير التجارة من الفقر ويُحسّن الرفاهية ولا سيما في البلدان النامية، ويُمكّن الدول النامية من الاستفادة من الأسواق العالمية وتوليد أرباح من النقد الأجنبي من خلال توسيع فرص التصدير، ويحفّز هذا بدوره النمو الاقتصادي والعمالة، وينتشل الناس من براثن الفقر، بالإضافة إلى ذلك، يؤدي تحرير التجارة إلى انخفاض أسعار السلع المستوردة بما في ذلك السلع الأساسية، مما يعود بالفائدة على الأسر ذات الدخل المنخفض، كما يعزز النمو الشامل ويسهم في جهود الحد من الفقر من خلال تعزيز التكامل الاقتصادي.
- التكامل العالمي والعلاقات السلمية
يعزز تحرير التجارة التكامل العالمي ويعزز العلاقات السلمية بين الدول، إذ تصبح البلدان مترابطة أكثر من خلال التجارة، بالإضافة إلى إنشاء علاقات اقتصادية وتعزيز المصالح المشتركة، كما يساهم في الحل السلمي للنزاعات والعلاقات الدبلوماسية من خلال تشجيع التعاون والحوار، بالإضافة إلى ذلك، يخلق الاعتماد على التجارة حوافز للبلدان للحفاظ على بيئات سياسية واقتصادية مستقرة، مما يقلل من احتمالية نشوب صراعات يمكن أن تعطّل التدفقات التجارية.
عيوب تحرير التجارة
يُرحّب بتحرير التجارة غالبًا في الدول لقدرته على دفع النمو الاقتصادي، وزيادة الكفاءة، وتعزيز التكامل العالمي، ولكن يجب أن ندرك بالرغم من ذلك أن الموضوع لا يخلو من التحديات والعيوب، وهي كالآتي:
- النزوح الوظيفي وعدم المساواة في الدخل
تُعد من إحدى التحديات الرئيسية المرتبطة بتحرير التجارة، إذ تواجه الصناعات غير القادرة على المنافسة عمليات الإغلاق والتسريح بسبب انفتاح الأسواق على المنافسة الدولية، مما يؤدي إلى البطالة والاضطراب الاجتماعي، وتتعرض غالبًا قطاعات معينة لأهم الآثار مثل التصنيع، كما يؤدي تحرير التجارة بالإضافة إلى ذلك إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل، إذ يميل الأشخاص الذين يتمتعون بمهارات وتعليم عالٍ إلى الاستفادة أكثر من العولمة، بينما يواجه العمال أصحاب المهارات المنخفضة تحديات في التكيّف مع سوق العمل المتغيّر.
- خسارة الصناعات المحلية
يؤدي تحرير التجارة إلى خسارة الصناعات المحلية غير القادرة على منافسة المنتجين الأجانب، وتُجبر الشركات المحلية في بعض الحالات على الخروج من السوق بسبب المنافسة من الواردات منخفضة التكلفة، ويترتّب على ذلك عواقب سلبية على الاقتصادات المحلية لا سيما في المناطق التي تعتمد بشدة على صناعات معينة، إذ يؤدي فقدان الصناعات المحلية إلى انخفاض فرص العمل، وانخفاض الإيرادات الضريبية، وانخفاض الحيوية الاقتصادية العامة للمجتمعات المتضررة.
- التعرض لتقلبات السوق العالمية
يتعرض تحرير التجارة البلدان لتقلبات متزايدة في الأسواق العالمية، ويترتّب على الصدمات الاقتصادية عواقب وخيمة على الاقتصادات التي تعتمد بشدة على التجارة الدولية مثل الأزمات المالية أو التحولات المفاجئة في الطلب العالمي، وتتعرض البلدان ذات التنويع المحدود في أسواق صادراتها أو البلدان التي تعتمد كثيرًا على سلعة أو قطاع معين لمثل هذه التقلبات، وتعطّل ظروف السوق غير المتوقعة الصناعات المحلية، وتزيد من عدم الاستقرار الاقتصادي، وتعيق التخطيط طويل الأجل وجهود التنمية.
- التوزيع غير المتكافئ للمكاسب
يمتلك تحرير التجارة القدرة على تحقيق فوائد اقتصادية عامة، لكن في المقابل يكون توزيع هذه المكاسب غالبًا غير متساوٍ، وتكون الشركات الكبرى والشركات متعددة الجنسيات في كثير من الحالات في وضع أفضل للاستفادة من فرص السوق الجديدة والاستفادة من وفورات الحجم، كما تكافح الشركات المحلية الصغيرة ولا سيما تلك الموجودة في البلدان النامية من أجل المنافسة وتواجه صعوبات في الوصول إلى الأسواق العالمية، ويساهم عدم التوازن في الاستفادة من تحرير التجارة في التوزيع غير المتكافئ للثروة والسلطة مما يزيد من تفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية.
- مخاوف بيئية
يمكن أن يكون لتحرير التجارة آثار بيئية سلبية، إذ يؤدي السعي وراء المكاسب الاقتصادية وزيادة التجارة إلى استغلال الموارد وتدهور البيئة والممارسات غير المستدامة، ويدفع الضغط لإنتاج سلع بأسعار تنافسية البلدان إلى إهمال اللوائح البيئية أو استغلال الموارد الطبيعية دون ضمانات كافية، كما تساهم زيادة النقل وسلاسل التوريد الأطول المرتبطة بالتجارة العالمية في زيادة انبعاثات الكربون والتلوث البيئي.
- فقدان استقلالية السياسة
يحدّ تحرير التجارة من استقلالية سياسة الدولة لا سيما في مجالات مثل التنظيم المحلي، ومعايير العمل، وحماية البيئة، وتتضمن الاتفاقيات التجارية غالبًا أحكامًا تحتاج من الدول مواءمة لوائحها المحلية مع المعايير الدولية، ويُنظر إليها على أنها قيد على سيادة الدولة، ويجادل النقاد بأن هذا يمكن أن يقوّض قدرة الدولة على تنفيذ السياسات التي تلبي الاحتياجات المحلية، وتحمي حقوق العمال، أو تحافظ على الاستدامة البيئية.
- تركيز السوق والممارسات الاحتكارية
يؤدي تحرير التجارة إذا لم يُنظم بطريقة صحيحة إلى تركّز السوق والممارسات الاحتكارية، وتستفيد الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات من هيمنتها على السوق لاستغلال المستهلكين وإعاقة دخول الشركات الجديدة إلى السوق، ويؤدي هذا إلى تقليل الخيارات للمستهلكين، وارتفاع الأسعار، وتقليل الابتكار داخل السوق، وتُعد الأطر التنظيمية الفعّالة ضرورية لمنع مثل هذه الانتهاكات ولضمان المنافسة العادلة.
الخاتمة
برز تحرير التجارة كقوة محورية في تعزيز النمو الاقتصادي، ورفاهية المستهلك، والتكامل العالمي، ويمكن للبلدان الاستفادة من مزايا التخصص وتوسيع الوصول إلى الأسواق وتعزيز الابتكار من خلال تقليل الحواجز أمام التجارة، وتعالج أطر السياسات الفعّالة التحديات وتضمن تقاسم المكاسب من التجارة على نطاق واسع، وتنطوي إمكانية تحرير التجارة على إمكانات كبيرة للمساهمة عند اتباعه جنبًا إلى جنب مع التدابير الداعمة في الرخاء والتعاون العالميين في عالم القرن الحادي والعشرين المترابط.
يوفر تحرير التجارة العديد من المزايا، بما في ذلك النمو الاقتصادي، والكفاءة المعززة، ومنافع المستهلك، والحد من الفقر، والتكامل العالمي، والتحسينات البيئية، ويخلق فرصًا للشركات، ويحفّز الابتكار، ويوسّع خيارات المستهلك من خلال تعزيز الأسواق المفتوحة والتنافسية، وتفوق الفوائد التي تحققها التجارة الحرة التحديات، مثل الحاجة إلى شبكات أمان اجتماعي ملائمة ومراعاة الصناعات الضعيفة.