تراجعت البورصة خلال الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 بنحو 40%، وخسر آلاف المستثمرون أموالهم، لكن ووسط هذه الخسائر الفادحة في السندات والأسهم للشركات، كان هنالك محافظ استثمارية أعطت أداء جيدًا بالموازنة مع خسائر السوق، كان أصحاب هذه المحافظ اتبعوا نظرية قديمة نسبيًا لكنها لم تكن مشهورة آنذاك وهي نظرية المحفظة الحديثة لعالم الاقتصاد هاري ماركويتز Harry Markowitz. استثمر الأشخاص الذين طبقوا النظرية نسبة من محافظهم في سندات الخزينة الأمريكية قليلة المخاطر، وواجهوا اختبارًا حقيقيًا لنظرية هاري خلال أزمة الركود.
ولكن كيف حققت هذه النظرية نجاحًا في ظل الظروف السيئة للسوق؟ وهل هي فعلًا مفيدة في عالم الاستثمار؟ ما هي نظرية المحفظة الحديثة Modern Portfolio Theory؟
نشأة نظرية المحفظة الحديثة Modern Portfolio Theory
قدم الاقتصادي الأمريكي هاري ماركويتز Harry Markowitz نظريته المرتبطة باختيار أصول المحافظ الاستثمارية في ظل عدم اليقين في ورقة بحثية نشرتها مجلة المالية عام 1952 تحت عنوان (اختيار المحفظة) ليُبرز دور التنويع بين استثمارات عالية المخاطر ذات العوائد المرتفعة والاستثمارات منخفضة المخاطر ذات العوائد المنخفضة، وكيف أن لهذا التنويع القدرة على الوصول إلى الصيغة المثلى التي تؤدي إلى تعظيم العوائد الإجمالية بما يناسب قدرة المستثمر على المخاطرة.
تنطوي نظرية المحفظة الاستثمارية على إستراتيجية رائدة في الاستثمار تنطلق من فكرة أن أداء الأسهم الفردية ليست بنفس أهمية أداء المحفظة الإجمالية، فغيّرت الطريقة التي يستثمر بها الأفراد والمؤسسات.
بعد أربعة عقود وفي عام 1990 حصل ماركويتز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عن نظريته والتي اعتبرتها لجنة نوبل أنها أول مساهمة رائدة في مجال الاقتصاد المالي والتي غيرت نهج إدارة المحافظ.
نشأت الأفكار الأولى لنظرية ماركويتز من قراءته لنظرية قيمة الاستثمار لجون بور ويليامز والذي افترض أن قيمة السهم تساوي قيمة أرباحه المستقبلية؛ كتقييم لأرباح السهم المستقبلية المتوقعة.
فإذا وجه المستثمر جّل تركيزه على القيم المستقبلية المتوقعة للمحفظة من أجل تعظيم قيمتها، فهنا يلزمه الاستثمار في نوع واحد من الأوراق المالية، ولكن هذا ليس بسلوك المستثمر، ويجب على المستثمرين ما يلي:
- الاهتمام بالمخاطرة كاهتمامهم بالعوائد.
- إدراك فوائد التنويع وتحديد المستوى المثالي له.
الحد الفعال للمحفظة الاستثمارية The Efficient Frontier
انطلاقًا مما سبق أوجد ماركويتز أداة من أهم أدوات الاستثمار وهو الحد الفعال The Efficient Frontier أو حدود المحفظة وهي أعلى عائد متوقع لمستوى محدد من المخاطر أو أقل مخاطرة لمستوى محدد من العائد المتوقع، وبالتالي تقدم مزايا لا تقدمها أي محافظ أو استثمارات أخرى في السوق.
تتحقق المحفظة المثالية بتوليفة محددة من الأصول، وعلى المستثمرين دراسة العوائد التاريخية طويلة الأجل للأصول لمقاربة أدائها في المستقبل، وعوضًا عن التركيز على مخاطر كل أصل بطريقة منفردة تأتي النظرية لتثبت أن المحفظة المتنوعة تكون أقل تقلبًا من المجموع الكلي للأصول المكونة لها. تحقق المحافظ المثالية أقصى عائد متوقع عند مستوى محدد من المخاطر والتي تحددها طبيعة الاستثمارات المكونة لها.
يتقدم المستثمرون بنمذجة مجموعة من المحافظ المختلفة بمستويات متفاوتة من المخاطر والعوائد المتوقعة مع وضع هذه المبادئ في الاعتبار.
أصبحت نظرية المحفظة الحديثة أداة أساسية لمديري الأصول والمستشارين الآليين Robo-Advisor على حد سواء وتُطبق عادةً مع إستراتيجية الشراء والاحتفاظ A buy-and-hold strategy.
أنواع المخاطر بالنسبة لنظرية المحفظة الحديثة
تحدد نظرية المحفظة الحديثة نوعين من المخاطر التي تؤثر على عوائد الأسهم الفردية داخل المحفظة وهي:
- المخاطر النظامية Systematic Risk: وهي المخاطر الناتجة عن تعرض السوق لخسائر تؤثر على الاستثمارات ولا يمكن الحد منها بالتنويع أو احتمال تعرض السوق والاقتصاد الإجمالي لخسائر تؤثر سلبًا على الاستثمارات.
- المخاطر غير النظامية Unsystematic Risk: تتعلق بالأسهم الفردية، ففي محفظة على درجة محددة من التنويع، تكون مساهمة الأصل الواحد في المخاطرة محدودة بالنسبة لمخاطر المحفظة الإجمالية، ولذلك يمكن للمستثمر تقليل مخاطر الأصول الفردية عن طريق محفظة أصول متنوعة.
التوزيع والتنويع في النظرية الحديثة
تشكل هذه المحافظ مزيجًا عالي التنوع من الاستثمارات بين تلك ذات العوائد المتوقعة الأعلى إلى الاستثمارات ذات المخاطر الأقل، وصولًا لتحقيق التوازن بينهما في محفظة فعالة تحقق أعلى معدل عائد ممكن لمستوى محدد من المخاطر.
يساعد التوزيع في الحد من التقلبات باختيار الأصول ذات الارتباط السلبي مثل أسهم الشركات الصغيرة وسندات الخزانة الأمريكية وصولًا للمحفظة الأكثر كفاءة.
الانتقادات الموجهة للنظرية الحديثة
بالرغم من نجاح تطبيق نظرية المحفظة الحديثة بلا شك، وتبني مدراء المحافظ والمستثمرين هذه الاستراتيجية روتينيًا، إلا أنه توجهت لها العديد من العيوب نذكر منها:
- لا يوجد فرق كبير بين خطر حدوث الكثير من الانخفاضات الصغيرة في قيمة الأصول و الانهيار الكارثي، مما يجعل من الصعب تحديد أي الأسهم عالية المخاطر.
- تحتاج النظرية نهجًا طويل الأجل، وتحقيق نتائج متّسقة على طول الدورة الاقتصادية ولكن ليس بالضرورة الأداء الأمثل في كل مرحلة.
- عند الرهان على إشراق الشمس وعدم إشراقها، سيخسر أحد رهاناتنا حتمًا.
- دمج الاستثمارات عالية المخاطر في محفظة منخفضة المخاطر سيجعلها متقلبة نسبيًا وهذا الأمر صعب لبعض الناس.
- تفترض النظرية عقلانية المستثمر أي أنه سيُفضل محفظة أقل قليلة الخطورة وعائدها قليل، بحكم تنوع أصولها ولكن الواقع يشير إلى حب المستثمرين وخصيصًا الأفراد إلى المغامرة دومًا.
- تعتمد النظرية على القيم المتوقعة على بيانات تاريخية لا تكون ذات صلة وثيقة بالأسواق الحالية أو المستقبلية.
بالإضافة إلى ذلك يمكن لمقياس المخاطر أن يُظهِر محفظتين بنفس المستوى من المخاطر رغم اختلاف طريقة الاستثمار والأسهم الموجودة في كل محفظة، غالبًا سيظهر هذا الاختلاف على المدى الطويل إذ يمكن أن تحقق إحدى المحافظ خسائر محدودة على المدى الطويل في حين أن الأخرى تتعرض لخسائر كبيرة، لحل هذه المشكلة طور الباحثون نظرية المحافظ ما بعد الحديثة Post-Modern Portfolio Theory والتي عملت على تقليل مخاطر الجانب السلبي.
نظرية المحفظة ما بعد الحديثة Post-Modern Portfolio Theory
وهي النسخة المطورة من المحفظة الحديثة ظهرت بسبب قصور بعض الجوانب التي سببتها النظرية السابقة، وتختلف عن نظرية المحفظة الحديثة التقليدية عن طريق التركيز على العوائد السلبية كمقياس للمخاطر، وتستعمل مفاهيم متقدمة مثل الانحراف السلبي لحساب العوائد المعدلة حسب المخاطر، والانحراف السلبي هو مقياس للمخاطر يركز على هبوط العائدات عن عتبة الحد الأدنى أو ما يعرف (الحد الأدنى المقبول للعائد)، ويستخدم في حساب نسبة سورتينو Sortino Ratio، مقياس لتحديد عائد الاستثمار المُعدل حسب المخاطر، وأداة تقييم مطورة عن نسبة شارب Sharpe Ratio لأنها تركز فقط على الانحراف السلبي لعائدات المحفظة الاستثمارية عن المتوسط، مما يوفر رؤية أفضل لتقييم عائد الاستثمار لمستوى معين من المخاطر السلبية.
تعد هذه النظرية واحدة من الأساليب المتنوعة للاستثمار في الأسهم، و إحدى البدائل القوية لنظرية المحفظة الحديثة.
الخاتمة
تعرفنا على نظرية المحفظة الحديثة في الاستثمار، وهي نظرية مرتبطة باختيار أصول المحافظ الاستثمارية في ظل عدم اليقين، وتنطوي نظرية المحفظة الاستثمارية على إستراتيجية رائدة في الاستثمار تنطلق من فكرة أن أداء الأسهم الفردية ليس بنفس أهمية أداء المحفظة الإجمالي، واطلعنا على أنواع المخاطر والانتقادات الموجهة للمحفظة الحديثة.
ختامًا ساعدت نظرية المحفظة الحديثة على إدارة المحافظ ودراسة كيفية تخصيص الأصول الأمثلي تبعًا لخيارات كل مستثمر، وهي كغيرها من النظريات تحتاج كل فترة إلى النظر إلى المحفظة لإعادة توازن ومراجعة دورية حسب تغييرات السوق.